إفتخر لبنان منذ قيامه بالنظام الجمهوري البرلماني الذي يتحلى به وسط بحر من الأنظمة الملكية والرئاسية الوراثية السائدة، ولم يكن وحده يتبع هكذا نظام لكن وحده من طبق أو حافظ على أسس   النظام الجمهوري البرلماني ولو شكليا. هذه الأسس تظهر إذا ما أجرينا مقارنة بين عدد رؤساء الجمهورية اللبنانية وباقي الجمهوريات العربية وسنجد أن الدفة تميل لمصلحة لبنان. لكن على الرغم من هذه الشكليات بقي لبنان يولد أزمات حتى بات نظامه يؤمن شرعية قانونية ودستورية لهذه الأزمات، فبدل أن يكون هو الحل أصبح هو المشكلة.

جرت منذ قيام الجمهورية عدة إنتخابات رئاسية وبرلمانية وشكلت العديد من الحكومات وبقي لبنان يعيش الأزمة بتفاصيلها الموجعة والمشيطنة التي حولت نخبة الأنظمة السياسية في العالم إلى وجه آخر للديكتاتورية والتسلط.

ما يختلف به نظام لبنان عن باقي الأنظمة أمران: الأول مناخ الحرية الواسعة التي يتمتع بها. الحرية تلك الكلمة الساحرة التي تشكل فضاءا رحبا لإنطلاق الأفكار والآراء تجدها في لبنان مغايرة لأن الحرية من دون معرفة صحيحة لممارستها تصبح فوضى وغوغائية كما الحال في بلادنا.

فلبنان يمتلك الحرية ولكنه إلى الآن يفتقد شعبه إلى ثقافة الحرية، أي كيف تمارس الحرية وما هي حدودها وضوابطها وطرقها. لذلك أصبحت الحرية نقمة في لبنان وإستغلت في العديد من المناسبات من قبل الساسة اللبنانيين لتأييد محاور ومصالح خارجية على حساب الوطن فالحرية المتحررة من أي قيد قانوني فعال سمحت للساسة بأن يختاروا هذا المحور أو ذاك. وهنا وإن كنت أتحدث عن الحرية فما يهمني فيها جوانبها السلبية ولا أنفي جوانبها الإيجابية ولكنها خارج نقاشاتي حاليا.

أما الأمر الثاني فهو أن لبنان بدل أن يتخلص من الديكتاتور إستبدله ب 18 أو 19 ديكتاتور على رأس كل طائفة. فالأنظمة المحيطة بلبنان لديها ديكتاتور واحد أما لبنان فيتربع على رأس كل طائفة ديكتاتور يربط مصير طائفته بشخصه. ولأن الطائفية متجذرة في النفوس والنصوص كانت مصلحة الزعيم متقدمة على مصلحة طائفته ومصير طائفته  أهم من الوطن. ما أدى عبر الزمن إلى تآكل هيكل الدولة الذي سخر لمصالح طائفية وشخصية تراكمت ومرت بحروب ومعارك أهلية بإسم المحافظة على الوجود وحماية الذات.

هذا التآكل أضعف هيبة الدولة وقوى هيبة الأحزاب الطائفية. وجود الأحزاب والحركات والتيارات في أي بلد عامل جيد على تقدم البلد لأنه يغني المشهد السياسي بآراء وإقتراحات مختلفة تثري أي جدل سياسي فيه بالعديد من الآراء والإقتراحات والبدائل. لكن الإختلاف في لبنان لم يثر بل أفقر العمل السياسي وأدى إلى حرب أهلية دامت حوالي 15سنة وقتل فيها أكثر من 150 ألف ضحية. ولم تكن هذه الحرب سوى حرب المصالح وتسجيل النقاط وزيادة المكتسبات والمحاصصة التي أودت بالنظام اللبناني إلى مزيد من الإنهيار والإنزلاق نحو المجهول حتى جاء إتفاق الطائف 1989. ذاك الإتفاق الذي غير في نسبة الحصص لكل طائفة وأنهى الحرب لكنه لم ينه أسباب الحرب الحقيقية. فالطائف دعا إلى إلغاء أهم سبب من أسباب الحرب وهي الطائفية السياسية لكنه لم يستطع تحقيق ذلك حتى الآن وبقيت مطالبه في هذا الإتجاه مجرد دعاء وتمنيات.

الطائفية السياسية هي التي تلوث مناخ العمل السياسي والحزبي في لبنان وتجعله يعاني مرض مزمن. أضف إلى ذلك أنه تمخض عن الممارسة المشوهة لإتفاق الطائف نظام المحاصصة المقيت الذي قسم ثروات البلد على مجموعة من الحكام تتمسك برقاب العباد وتقودهم كالغنم إلى الإنتخابات. تلك الإنتخابات والتي تعتبر إحدى وسائل تحقيق الديمقراطية أصبحت تكرس الطائفية والديكتاتورية في آن فكلاهما يتغذان من بعضهما البعض.

في ظل هذا الواقع المأساوي حلت المشكلة على رؤوس الجميع، وصل اللبناني إلى مرحلة اليأس ووصل النظام إلى مستوى الفشل. فقد فشل النظام اللبناني وفشلت الجمهورية ومعدلات الممانعة مفقودة كليا ولا يمسك بهذا الهيكل الهش سوى قرار دولي بالمحافظة على لبنان كما هو.

ووصل مستوى الفشل على الصعيد العام أن الأحزاب والحركات باتت عاجزة عن خلق قيادات جديدة وإستبدلتها بتكريس الزعامات من خلال التوريث السياسي وإستبدال الأب بالإبن، فالنظام بات قائم على ترابط وتشابك مصلحي بين عائلات سياسية تهيمن على مكونات الدولة والنظام، والرؤية والتخطيط والعمل في هكذا ترابط سيكون ذات بعد عائلي ومناطقي وطائفي مفتقدا البعد الوطني والنظرة الإستراتيجية البعيدة لتنمية وتقوية الدولة. لذلك واحدة من عدة شغل هذه المنظومة المافياوية وأدواتها أو بالأحرى حيلها الماكرة هي سياسة التجويع.

سياسة قائمة على معادلة إفقار الشعب مقابل كسب تبعيته النهائية لهذه المنظومة لتؤمن وحدها الحد الأدنى من حقوقه وكذلك تعمد هذه المنظومة إلى توزيع المهام وحصرها وإحتكارها بها فيرى المواطن نفسه مضطرا لمسايرة زعيم طائفته- الذي فرض عليه بموجب إتفاق ضمني بين مكونات المنظومة المافياوية- لكسب العيش لافتقاد البديل.

ذاك البديل الذي يكون خائنا وعميلا ومرتشيا فقط لأنه يهدد مصالح هذه المنظومة المافياوية.

ومع الوقت يكفر المواطن بالوطن ويصبح شيئا فشيئا غارقا بالوحول المناطقية والطائفية ويتخلى عن هويته الوطنية. وهذا هو الحال اليوم. فرسميا نحن ساقطون كلبنانيين في فخ الهزائم والتخلف والفساد المستشري وإزدواجية المعايير والنفايات والكسارات والأملاك البحرية وسرقة الآثار والمحاصصة وأقل ملف حكومي بسيط وعادي بحاجة إلى معجزة التوافق واللامركزية مفقودة والبيروقراطية مكرسة حتى على مستوى أبسط القرارات ولغة "المصير"  و " الوجود" طاغية على المشهد العام حتى باتت نخبة المجتمع من مثقفين ومتعلمين غارقين في بحر الطائفية والرجعية والجهل العميق.

أضف إلى ذلك أن ساسة لبنان عاجزون عن إدارة بلادهم وإختلافاتهم لذلك يعمدون إلى جلب العامل الخارجي لفض إشتباكاتهم كمسألة إنتخاب رئيس للجمهورية، وهم لا يكتفون بذلك بل يدخلون طرف في الإشتباك الإقليمي وهذا ما يدفع ثمنه اللبناني نزيفا إقتصاديا ومعيشيا.

وهذا العجز في إدارة البلاد هو من أبرز معالم الفشل في الجمهورية. خصوصا أن النخب في البلاد باتت تعكس الوجه الآخر للمنظومة المافياوية الحاكمة بكل تفاصيلها وأصيبت بداء الجهل والتخلف. فمتى أصاب الجهل نخبة الدولة وجب نعي الدولة لأن طبيعة عمل النخب أنها تفكر بعقلانية وتمارس ضمن خطة وسياسة واضحة وهذا ما ينجح الدولة أما حينما تصبح هذه النخبة بحاجة إلى من يصلح أمرها وتفكر بأنانية وجهل وتخلف وطائفية فالأمر خطير وخطير جدا ويجب دق ناقوس الخطر وهذا ما حصل ويحصل في لبنان. فمرحبا بكم رسميا في جمهورية الفشل.