طوال الأسبوع الماضي، ظلَّ الإعلاميون في فرنسا المعنيون بتغطية وقائع زيارة الرئيس الايراني حسن روحاني الى باريس، لا يجدون إجابة من الإليزيه عن تفاصيل جدول أعمالها. يتناقَض هذا الأمر مع حقيقة أنَّ تصنيف الزيارة يقع في خانة أنها زيارة قمّة، وأنّ التحضير عادة لهذا النّوع من الزيارات يُراعي أن يتمّ ترتيب كلّ تفاصيلها باكراً.

وفي سابقة غير معهودة في علاقتها مع الاعلام في هذا النّوع من المناسبات، فإنّ الاليزيه بقيت قرابة أسبوعين تقريباً تُحيل الإعلاميين الراغبين بمعرفة جدول لقاءات روحاني الفرنسية وطبيعة جدول أعمال مناقشاته، إلى وزارة الخارجية، والأخيرة بدورها كانت تفعل العكس.

وحتى نهاية الاسبوع الفائت لم تكن الإليزيه وزّعت على الصحافيين أيّ معلومات عن زيارة روحاني. وفقط يوم الجمعة الماضي أبلغت مصادرها مراجعيها أنّها ستزوِّدهم ببرنامج الزيارة يومَ الاثنين (اليوم)؛ أيْ قبل يوم واحد من بدئها.

يدل هذا التلكؤ في اعلان البرنامج برأي مصادر إعلامية في باريس، على وجود تمحيص فرنسي حذر في جدول أعمال الزيارة التي ستكون ذات مضمون اقتصادي بامتياز يشتمل على مشكلات عالقة بين البلدين منذ مرحلة الحصار على إيران تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، وكلّها من النوع الذي ليس سهلاً حلّها.

وتعكس معلومات من باريس أنّ الزيارة هي محلّ اهتمام كبير لروحاني وحتى لمجمل التيار الإصلاحي في إيران، ولكن هذه الحماسة الايرانية لها، لا تقابلها باريس بالحرارة ذاتها.

فبالنسبة إلى روحاني تُعتبر زيارته إلى باريس أوّل تفعيل لعلاقات إيران مع الغرب بعد توقيعها الاتفاق النووي، والأهمّ أنها تمثل أوّل إثبات من تيار الإصلاحيين للداخل الايراني الذاهب لانتخابات تشريعية قريبة، بأنّ نتائج الاتفاق بدأت تؤتي أُكلها الاقتصادية العملية، وبأنّ بدء سبحة تنفيذ رفع العقوبات كرّت وباتت تشتمل على مكاسب مالية واقتصادية بنيوية أيضاً. وهنا رسالة للإقليم ايضاً.

ضمن هذا المجال، يراهن الإصلاحيون في إيران خصوصاً على الرمزية التي تحملها، توقيع صفقة طائرات الايرباص الفرنسية، بوصفها تدشن أوّل تطبيع عملي لعلاقات إيران مع العالم الذي كان يقاطعها ويحاصرها.

لا شكّ في أنّ باريس مستفيدة اقتصادياً من توقيع هذه الصفقة، ولكنها في المقابل تقاربها بكثير من الحذر والتوجّس المشروع. فهولاند ليس مطمئنّاً بالكامل الى أنّ رفع العقوبات الاميركية عن إيران هو امر نهائي، أو أقله لا يعرف المدى الذي سيبلغه مساره، وما اذا كانت واشنطن ستعود للانقلاب على اجزاء منه.

وعليه فإنّ حماسة باريس للصفقة المتأتي من منفعتها المالية يقابله حذرها من أن تدخل إيران لاحقاً دائرة عقوبات جديدة وتصبح عاجزة عن تسديد قيمة الصفقة بالكامل. والواقع أنّ خشية باريس من عدم استطاعة إيران تسديد التزاماتها المالية في المستقبل، تقابله خشية مماثلة لديها من ألّا تستطيع السعودية مستقبلاً وإن لأسباب أخرى، دفع كامل التزاماتها المالية بدل صفقاتها مع فرنسا.

والى عامل حذر فرنسا من أنها توقع صفقات رابحة مع دولة قد تعود إلى حالة الحصار الأممي الكامل أو الجزئي عليها، هناك أيضاً عوامل خلافية أخرى تسبّبت بمشكلات بنيوية لاقتصاد الطرفين.

وأبرز هذه المشكلات تتعلّق بشراكة نشأت بين طهران وباريس قبل فترة الحصار لإنتاج سيارة «بيجو» الفرنسية وبيعها في السوق الإيراني. بموجب هذه الشراكة كانت شركة إيران حضرو المنتجة لسيارات إيرانية أبرمت اتفاقاً مع شركة «بيجو» الفرنسية لإنتاج نحو ٣٠٠ الف سيارة سنوياً من موديلات «بيجو» لتسويقها في السوق الإيرانية؛ وذلك وفق أسلوب استيراد أجزاء السيارة من فرنسا وتجميعها من الشركة الإيرانية في إيران.

وكانت العقوبات الأممية أوقفت العمل بهذا الاتفاق، نتيجة فرض حظر على التحويلات المالية الى إيران، غير أنّ طهران استمرت بإنتاج سيارة «بيجو» ولكن عبر استيراد اجزائها من الهند والصين. ومنحها هذا الامر فرصة تسويقها ليس فقط في السوق الإيراني بل في أسواق آسيا الوسطى. وعند هذا التطوّر أصبحت البيجو الإيرانية تنافس البيجو الفرنسية ذاتها في سوق عالمي آسيوي واسع.

الفرنسيون يطالبون الآن بعودة اتفاقهم مع طهران الى تطبيقات نسخته الأصلية الموقعة قبيل بدء العقوبات الأممية على إيران، او أقله فإنهم يرضون بأن تشاركهم إيران في أرباحها من بيع سيارة البيجو في أسواق آسيا الوسطى. لكنّ الإيرانيين ميالون لعدم الموافقة على الطلب الفرنسي، لأنهم يعتبرون أنّ باريس هي مَن أخلّت بشروط العقد الأوّل.

تؤشر هذه القضية الخلافية الى أنّ مشكلات إيران مع الغرب الموروثة من زمان الحصار عليها، تشتمل على رغبة الأخير بمطالبتها إجراء مراجعة لميزات اقتصادية حقّقتها خلال انتهاجها لسياسات «تكيّف اقتصادي» مع العقوبات الدَولية عليها، وأبرزها نجاح الايرانيين في إثبات حضور مربح ومنافس حتى للمنتجات الأوروبية في أسواق آسيا الوسطى.

كما تحفل زيارة روحاني لباريس بنوع ثالث من المشكلات المطلوب إيجاد حلول لها أو وضع إيضاحات بخصوصها. وتبدو هذه المشكلات في الظاهر بسيطة وشكلية، غير أنها في الواقع هي الأكثر تعقيداً لارتباطها بحرب الرؤى بين طهران والغرب بخصوص أيّ مستقبل سياسي يجب أن تكون عليه إيران بعد رفع العقوبات: إيران المصرّة على اتباع نهج حذر في انفتاحها الاقتصادي على الدول الليبرالية خشية أن تنفذ الى مجتمعها أنماط تفكيرها السياسي والاقتصادي؛ أم إيران التي ستوظف طفرتها الاقتصادية في خدمة تعزيز قوّة نفوذ ربيع الإصلاحيين فيها على حساب المتشدّدين.

هذا النوع من الصراع المضمر الموجود داخل سلة الرهانات الغربية على إمكانية أن يغير الاتفاق من نظام إيران السياسي، يجد تعبيره الرمزي داخل وقائع زيارة روحاني لباريس من خلال تفاصيل عدة، أبرزها أنه في مقابل أنّ السلطات الإيرانية لم تعطِ وسائل الإعلام الفرنسية الراغبة بإرسال مندوبين دائمين عنها الى إيران لتغطية أحداثها، إلّا بطاقة صحافية واحدة، تمّ منحها لوكالة (ا ف ب)، قرّرت باريس التعامل بالمثل، ولم تصدر غير بطاقة واحدة للإعلام الإيراني حصل عليها مندوب «برس تي في» الإيرانية.

والسؤال المُثار الآن هو هل ستوقف باريس تطبيقات المعاملة بالمثل وتسمح لوفود صحافية من وسائل إعلامية إيرانية مختلفة بالمشاركة في تغطية الحدث من باريس؟ أم أنها ستأخذ من هذه المناسبة فرصة للتشدّد في موقفها، وذلك من بابِ إحراج روحاني ولفت نظر طهران إلى وجود ثمن للتطبيع الغربي معها، وهو قبولها بفتح إيران امام مناخ الحريات العامة والإعلامية والقيم الليبرالية السياسية.