عندما دعا أمين حزب الله إلى مؤتمر تأسيسي في لبنان منذ أكثر من عقد، لم تكن هذه الدعوة مجرد مقترح عابر أو فكرة مطروحة للنقاش، بقدر ما هي تعبير سياسي ملطف عن غاية يقصدها ووجهة يعتمدها حزب الله تتوج عمله السياسي وخطابه التعبوي وعمله الجهادي.  هذه الغاية أو الوجهة لا تتوقف على تغيير قواعد اللعبة السياسية في لبنان، وإنما تغيير النظام السياسي بأسره.


قد يفتتن دعاة التغيير في لبنان بهذا الطرح، ويرون فيه مدخلاً لإنهاء النظام الطائفي البائس ولعبة المحاصصة، وبداية نقاش جدي للعبور إلى دولة المواطنة والديمقراطية الفعلية لا الشكلية.  بيد أن ما يرغب به هؤلاء شيء وما يقصده ويروم إليه نصر الله شيء آخر، ولا مشترك بينهما إلا اللفظ لا الدلالة أو المعنى. فالتغيير مشترك لفظي يحمل دلالات لا متناهية، لا يحدد معناه معجم مصطلحات السياسة وقواميس اللغة، بل معناه تابع لمقصد من يستعمله.

 


كان اتفاق الطائف ترجمة لموازين قوى فاعلة ومؤثرة في الساحة اللبنانية، هما السعودية وسوريا ومباركة أمريكية لمعادلة س-س، مع غياب إيراني بسبب خروج النظام منهكاً من حرب الخليج الأولى وعدم تبلور استراتيجياته الإقليمية لما بعد هذه الحرب. هي معادلة أنهت المارونية السياسية بأن عرت رئاسة الجمهورية من سلطة الحسم والقرار، وركزت الكثير من الصلاحيات بيد رئاسة الحكومة. أما الشيعة حينها فكانوا في حالة ارتباك بسبب الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني، وفي ذهنية ريبية من الدولة نفسها، بسبب سوء إدارتها، النابع إما من عجز الدولة أو لا مبالاتها، لمسألة الإحتلال الإسرائيلي وتداعياتها المأساوية. أي كان الشيعة حينها في وضعية سياسية هشة، منعتهم من التأثير في وضع قواعد اللعبة السياسية الجديدة، أو تأمين نفوذٍ وازن في صناعة القرار.

 


كان اتفاق الطائف بمثابة فرصة نهوض سياسي للمكون السني، تجلى بنشوء الحريرية السياسية، التي استطاعت أن تفرض نفسها مشروعاً ناجحاً للإعمار والإنماء، وكانت بمثابة نقطة توازن تقوم على تسويات بين المصالح المتعارضة والاتجاهات المتباينة، وفك اشتباك بين نقائض محلية من دون أن يتم حلها.  الأمر الذي حقق حضوراً سياسياً قوياً وانتعاشاً اقتصادياً للمكون السني،  وحقق رفاهاً نسبياً واستقراراً اجتماعياً في لبنان، لكن على أرضية هشة وركيكة، قابلة للتفكك والانهيار مع أي متغير أو طروء عناصر جديدة تدفع باتجاه تغيير قواعد اللعبة.

 


خلق تحرر الجنوب شبه الكامل من الاحتلال الاسرائيلي يضاف إليه فائض القوة المتوفر لحزب الله، بداية حضور سياسي أكثر تكثيفاً وفاعلية للمكون الشيعي.  لم يكن غرض هذا الحضور مقتصراً على تأمين غطاء سياسي-شرعي لسلاح الحزب، بقدر ما كان يتجه بنحو تصاعدي إلى تغيير قواعد اللعبة السياسية الداخلية، وتأسيس مرجعيات إقليمية بديلة، تحتل إيران صدارتها، أي إنهاء الطائف كأرضية دستورية، أو بالحد الأدنى تفكيك مرتكزات القوة القائمة وتأسيس معادلة قوة جديدة وخلق معطيات أمر واقع تكون جميعها بمثابة العرف البديل غير المدون عن دستور الطائف.

 


هو توجه يجعل السنية السياسية هدفاً بعيداً، والحريرية السياسية هدفاً مباشراً. ما ولد تقاطعاً قوياً مع جميع المتضررين والناقمين على الوضع السياسي القائم، وفي مقدمهم ميشال عون، الذي كان يحلم باستعادة نفوذ الرئاسة الأولى، ولعب دور المخلص لاستعادة النفوذ الماروني.  وهو ما أنتج وضعية تحالف موضوعي، كان اتفاق مار مخايل ترجمته العملية.

 


هو حلف لا يقوم على قاعدة مبدئية أو وطنية، بل على قاعدة عدو عدوك صديقي، أي الاتفاق على تقويض الواقع السياسي القائم، من دون الإتفاق على صورة الترتيب السياسي البديل.  هو حلف السلب والتعطيل وحتى التهديم للوضع القائم مهما كانت تبعاته الاقتصادية والمجتمعية وحتى الأمنية.   ما يجعله حلفاً متخماً بالتناقضات التي أجَّل انفجارها بين الحليفين وجود الخصم المشترك لهما، لكنها تناقضات سرعان ما ستطفو على السطح حين تبدأ  مرحلة حسم الخيارات الاستراتيجية ووضع قواعد جديدة لموازين القوى. بخاصة وأن الطرف العوني كان هو الطرف الأضعف في هذا الحلف،  ما سيضطره في وقت لاحق إلى خوض معركة سياسية شرسة ضد النفوذ الشيعي الذي سيكون عائقاً دون استعادة المجد الماروني القديم.    

 


ثمة مؤشرات لهذا التوجه المشترك: أولهما حرب 2006 التي أطلقها حزب الله خارج الإجماع الوطني وترك تبعات كارثية على الدولة، التعطيل غير المسبوق للمؤسسات الدستورية الكبرى مثل إبقاء البلاد من دون رئيس لأكثر من عامين، التعطيل المتمادي في تكليف وتأليف الحكومة، استعراض فائض القوة من حين لآخر ترجم باحتلال بيروت، وأخيراً التسبب بالانهيار الاقتصادي الشامل والعزلة الدولية جراء إصرار الطرفين على الامساك بمفاصل القرار السياسي. هي جميعها إشارات تدفع باتجاه المزيد من السقوط، أي الدفع المتعمد باتجاه الكارثة التي باتت مطلوبة لوضع لدفع الأمور باتجاه الانهيار والتفكيك الشاملين، ما يسهل الطريق أمام تأسيس معالم عهد جديد بقواعد لعبة سياسية جديدة، أي وضع لبنان على طريق المؤتمر التأسيسي الذي دعا إليه نصر الله.

 


هشاشة الداخل اللبناني، بشقيه السياسي والمجتمعي، سمح لحزب الله بتحقيق مقصده البعيد المدى حتى النهاية.  ومخطئون الذين يعتقدون أن هنالك في لبنان رأياً عاماً أو إرادة مجتمعية تملك قدرة المواجهة وذهنية المحاسبة.  أما الضغط الخارجي، فلم يرتقِ إلى مستوى الحضور السياسي الفاعل لوضع سدود وموانع أمام طموح حزب الله الجامح.  فالمجال العربي انكفأ إرادياً وأعلن انسحابه من المشهد اللبناني، أما المجال الغربي، الولايات المتحدة على وجه الخصوص، فلم تكن عقوباتها سوى رسائل سياسية للتسريع في إجراء صفقة التسوية النهائية مع إيران.
باتت نهضة لبنان في حالة إرجاء غير محدودة الأمد، بعدما أصبحت صناعة الكارثة فيه إحدى أهم أدوات وآليات الإنتصار المجيد.