ثمة معايير"مقاييس" لكل شيء في الحياة السياسية والحياة الاجتماعية ويتأكد ذلك خاصة في السلوكيات الاخلاقية والدينية , فأي سلوك سياسي او حراك اجتماعي او ممارسة اخلاقية ودينية لا تكون مبتنية على معيار واضح يُرجع اليه عند الاحتكام وتقاس عليه المواقف للتمييز بين صوابية الموقف او عدمه , يكون ذلك الامر موضع شك , بصاحبه وبالموقف نفسه .

ينقل الدكتور طه حسين الأديب والكاتب المصري الشهير في كتابه ( علي وبنوه ) خبر الرجل الذي تردّد في يوم الجمل في أمر علي ( عليه السلام ) وطلحة والزبير وعائشة ، يقول في نفسه : كيف يمكن أن يكون مثل طلحة والزبير وعائشة  على الخطأ ؟! وشكا شكّه ذلك إلى الإمام علي ( عليه السلام ) وسأله : أيمكن أن يجتمع الزبير وطلحة وعائشة على باطل ؟

فقال ( عليه السلام) :

 (إنّ الحق والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال ، اعرف الحق تعرف أهله ، واعرف الباطل تعرف أهله )

، ـ يعني : إنّك في ضلال بعيد ، إذ أنّك قلبت في قلبك بشكّك هذا مقاييس الأمور ، فبدل أن تجعل الحق والباطل مقياساً لعظمة الأفراد وحقارتهم ، جعلت العظمة المزعومة مقياساً لمعرفة الحق والباطل ! أردت أن تعرف الحق بمعرفة أقدار الرجال ! كلا ، بل أقلب هذا المقياس ، فابدأ بمعرفة الحق وحينئذ تعرف أهله ، واعرف الباطل وحينئذ تعرف أهله ، وحينئذ لا تبالي من يكون إلى جانب الحق أو الباطل ، ولا ترتاب من أقدار الرجال .

كان يمكن للامام علي عليه السلام ان يحسم الجواب ويقول للسائل ان الحق مع فلان او علتان , الا انه اراد عليه السلام ان يؤسس قاعدة لمعرفة الحق من الباطل في كل مرحلة من المراحل التي قد يُشتبه فيها على الناس الحق والباطل , فكان المقياس والمعيار عند الامام هو  نفس معرفة الحق ومعرفة الباطل , وبالتالي يقاس عليهما الافعال والمواقف , مثلا : اذا صدر فعل ما من شخص ما او صدر منه موقف تأييدا او رفضا , مهما كان هذا الشخص مرموقا ومحبوبا من الجماهير, ينبغي ان يُقاس فعله بمقياس العدل والظلم والحق والباطل , لا ان يقاس فعله على مكانته الاجتماعية او السياسية او على قوته العسكرية والامنية وبالتالي نحكم بان ما قام به هو الحق ومن خالفه هو الباطل , وان موقفه هو الصحيح وما عداه هو الخطأ .

 فالعدل هو الحق والظلم هو الباطل , وكلاهما أي العدل والظلم لا يحتاجان الى مؤونة زائدة لمعرفتهما , ويعتبران من الامور البديهية عند الانسان العاقل الذي لم يتعرض عقله للتشويش والخداع , فالعقل السليم يستقل بادراكهما ومعرفتهما , فلذلك ينبغي عدم تشويش العقل الانساني بخطابات سياسية ودينية على قاعدة " كلام حق يراد منه باطل " كما يفعل بعض السياسيين والدينيين في لبنان , فلذلك ان كثير من الناس اختلط عليها  الحق والباطل , بسبب خطاب ديني سياسي يسعى الى السلطة على حساب القيم الدينية والاخلاقية , وبالتالي أضحى المراقب لهذا الخطاب لا يعرف له معيار واضح كي يحاسبه على اساسه , بل ان اصحاب الخطاب المذكور قد فقدوا المصداقية بسبب عدم التزامهم بمعيار اخلاقي او ديني يقيسون عليه مواقفهم