تدور مجريات الإرهاب، والحرب عليه، أو معه، على نحو يذكّر بمواجهة مشابهة أيام الحرب الباردة، عندما كانت الأجهزة السوفياتية تستخدم أذرعها في بعض الأنظمة التابعة لها، ومنها مثلاً النظام السوري والنظام الليبي (السابق). ثمة وقائع تستدعي هذه المقارنة: منها أن بشار الأسد استغلّ فرصة هجمات باريس لتوبيخ «السياسات الخاطئة» الفرنسية معتبراً أنها ساهمت في نشر الإرهاب، وكأن سياساته «الصائبة» و «الحكيمة» لم تؤذِ نحو مليون سوري قتلاً وتعويقاً وإخفاءً، عدا الذين اقتُلعوا من أرضهم ليتوهوا في مشارد النزوح. منها أيضاً أن جميع الدائرين في فلك نظام فلاديمير بوتين وجدوا مصلحة في الحدث الفرنسي معتمدين منهجاً «أسدياً» في تحليله وتباروا في الشماتة كما لو أنهم يسقطونه على الخلاف في شأن اوكرانيا والعقوبات الموجعة التي نجمت عنه. ومنها كذلك انتهاز إيران ضربات «داعش» لتكرار تسويقها المفهوم «الأسدي» للأزمة السورية، وحتى لأزمات المنطقة، بأنها «مشكلة إرهابيين وتكفيريين» وأن إيران وحدها مع ميليشياتها مَن يتصدّى لهم.

 

 

هناك «داعش»، إذاً، وهناك المستفيدون منه، فعن أي «حرب على الإرهاب» يتحدث المحاربون، إذ يتعايشون مع تنظيم وحشي لا يسيطرون عليه، يغذّونه بضربات جويّة غير مجدية وهو يتخذ من المدنيين دروعاً بشرية، لا يريدون زواله بل يحافظون عليه وقوداً لصراعاتهم. في خطابه أمام مجلسي النواب والشيوخ، بدا الرئيس الفرنسي مشككاً في مدى استعداد الأسرة الدولية لمحاربة الإرهاب فعلاً، وخلال قمة العشرين في تركيا كرر رئيس المجلس الاوروبي مطالبته الولايات المتحدة وروسيا بـ «التعاون ضد الإرهاب»، ومن الواضح أنهما لا تحبذان مثل هذا التعاون. لكلٍّ منهما حربها الخاصة التي لا تدور على أرضها، ولا يموت فيها جنودها، ولا تنعكس الآن وتعتقدان أنها لن تنعكس مستقبلاً على أمنهما ولن تؤثر في مجتمعاتهما، ولذلك فهما لا تأبهان لموت سوريين وعراقيين في هذه الحرب، وها هما تتظاهران فقط بالاهتمام البروتوكولي حيال أعمال القتل في شوارع باريس.

 

 

لم يشعر عرب الشرق الأوسط والخليج، بل لم يشعر الفرنسيون، بأن قمة العشرين (الاقتصادية) خرجت بأي عزم جديد على ضرب الإرهاب، رغم أنها انعقدت غداة الصدمة الباريسية، ورغم أن طبيعة الحدث أنذرتهم جميعاً بأنهم ليسوا بمنأى عن التهديد، بل رغم أن العشرين دقّوا ناقوس الخطر بأن الإرهاب بات يعوّق اقتصادات العديد من بلدانٍ ويفسد جهود التنمية في أخرى. كل ما توصلوا إليه كان مما سبق قوله والتشديد عليه والإخلال بالتزامه ونسيانه: مضاعفة التدابير لتجفيف الموارد المالية للتنظيم، زيادة التعاون الاستخباري... إلا أنهم، على افتراض صدق النيات، لم يبلوروا إرادة عملية لمواجهة الخطر الذي يقولون أنهم موحّدون ضدّه. وقد سبق أن أكدوا مراراً تعزيز التنسيق الأمني، وما أن تحصل عملية وتتمكّن من إسقاط ضحايا حتى تتصاعد الشكاوى من نقص في التنسيق أو من انعدامه. غير أن الخلل الحقيقي يكمن في قطبَين دوليين يمارس أولهما الاميركي استراتيجية الفراغ الدولي، ويستغلّ الآخر الروسي «استقالة» الأول لاصطناع إنجازات سعياً إلى تجديد زعامة دولية على أكتاف الحكام المستبدّين وأنظمتهم المتهالكة.

 

 

لا يمكن فصل الإشكالية «الداعشية» عن تلك المتمثّلة بالنظام السوري ورئيسه، فمصير التنظيم أصبح مرتبطاً نهائياً بمصير النظام، ومن أجل القضاء على التنظيم يجدر إنهاء النظام، واستطراداً فإن النظام والتنظيم واحد، أي تهاون حيال أحدهما لا بدّ أن يقوّي الآخر، ولا معنى لوجود أي منهما من دون الآخر... هذا هو جوهر الاقتناع العام في قمة العشرين، كما في لقاءات فيينا السورية، كما بالنسبة إلى أي عقل سليم. لكن عقليات التسوية تقترح أن يكون بقاء الأسد ثمناً للتخلص من «داعش». هذه هي وصفة الاستسلام العاري لمنطق الإرهاب نفسه، أي الارتضاء بأحد هذين الوحشَين. وماذا عن سورية هنا، بل ماذا عن شعبها، لا أحد يريد مجرد طرح السؤال. كان واضحاً للعيان أن حصول هجمات باريس عشية لقاء جديد في فيينا هو أكثر من صدفة مرتّبة، لا تهدف فقط إلى تمكين روسيا وإيران من اقتراح «داعش أولاً» و «الأسد لاحقاً» في مقاربة مختلفة للأولويات الدولية في سورية. لم يكن لأحد أن يدحض ذلك فيما لم تجفّ بعد دماء الضحايا في باريس، حتى لو كان المغزى الواقعي لهذه الأولوية أن «داعش» ينقذ الأسد.

 

 

كانت أبرز السياسات الفرنسية «الخاطئة» في دعمها الثابت للمعارضة والدعوة إلى تسليحها، وفي قيادة الجهد الحقوقي الدولي لإثبات «إجرام» النظام وتوثيقه والتحضير لمحاسبته، كما أن فرنسا قدمت مشروع قرار في مجلس الأمن لإحالة رموز النظام على المحكمة الجنائية الدولية لكن «الفيتو» الروسي - الصيني أحبطه، بل كانت الدولة الوحيدة التي أبدت استعداداً لمشاركة الولايات المتحدة في ضرب النظام عام 2013 بعد استخدامه السلاح الكيماوي إلا أن اميركا تراجعت عن خططها، ثم إن باريس هي التي تبنّت قضية ضحايا التعذيب في سجون الأسد استناداً إلى آلاف الوثائق التي هرّبها المصوّر «قيصر» لدى هروبه وانشقاقه. بهذه المواقف، وإنْ لم تُحدث فارقاً كبيراً لمصلحة المعارضة، تميّزت فرنسا عن كل الدول الغربية بأنها الوحيدة التي تعاملت مع الأزمة السورية، انطلاقاً من القوانين الدولية ومشروعية طموحات الشعب. وبسبب هذه المواقف اختارها التنظيم - النظام، «داعش - الأسد»، هدفاً ينبغي ضربه والانتقام منه. ولعل نتائج الضربات الجوية التي استهدفت فرنسا فيها «داعشيين» فرنسيين هي التي جعلت قيادتهم في الرقة تأمر ذئابها بالتحرك. وربما كان مقتل عدد من البريطانيين وعلى رأسهم «الجهادي جون» وراء ازدياد احتمالات حصول عمليات إرهابية في بريطانيا.

 

 

لا شك في أن هذا التناغم بين التنظيم والنظام هو ما أبقى التداول بـ «مصير الأسد» سواء في فيينا أو في انطاليا، كما أن فرنسوا هولاند لم يفوّت فرصة الردّ على الأسد بقوله أن أي حل سياسي للأزمة السورية «لن يشكّل مخرجاً للأسد»، وكان الزعماء الغربيون ردّدوا قبله وبعده أنه لن يكون للأسد دور في مستقبل سورية. وهذا في حد ذاته ضغط على روسيا، وبالتالي على إيران، اللتين تعتقدان أن خريطة الطريق التي اعتُمدت للحل تراعي بشكلها الخارجي منهجيتهما، لكنهما غير مرتاحتين إلى موقف اميركا التي تتوقعان منها أن تليّن مواقف أصدقائها، إلا أن إعلان السعودية أنها ستعمل للحل السياسي كما لو أن الخيار العسكري غير موجود وستعمل للحل العسكري كما لو أن الخيار السياسي غير موجود. وفي ذلك تأكيد بأن ما سمّي «خريطة طريق» لم يحسم شيئاً، وأنه مجرّد خطوة أولى واختبار للأفكار ومحاولة لحصر الخيارات، ذاك أن كلمة السرّ في فيينا هي أن الحل لم يتبلور بعد وبالتالي لم يبدأ بعد ولذلك فإن أحداً لا يريد أن يترك الطاولة الآن ولا أن يكون سبباً في إفشال عملية لا تزال في ما قبل بداياتها.

 

 

ثمة بديهيات صارت محسومة وتكرّست أكثر بعد هجمات باريس، ومهما برعت الديبلوماسية في الخداع فإنها لن تستطيع تجاهلها أو تجهيلها في عملية بناء حل سياسي حقيقي. وأهمها أن ارتباط النظام والتنظيم لم يعد سرّاً استخبارياً فحسب، بل أصبح واقعاً ملموساً. أما معادلة «إمّا الأسد وإمّا داعش» التي تستخدم للتخويف فكانت لتصلح أساساً لتسويق بقاء الأسد «لفترة محدودة» لو لم يعتمد النظام وإيران على «داعش» في حربهما على المعارضة. والأكيد أن «لا داعش ولا الأسد» هي المعادلة الأسلم لتحديد مستقبل سورية.