لا هدنات في شهر رمضان. لا في الحروب القاتلة كما في سورية واليمن وليبيا وغزّة، ولا في المواجهات السياسية السلمية كما في السودان والجزائر. المنطقة العربية لا تزال في تحوّلاتها وتشرذماتها، القوى الخارجية تترسّخ في تدخّلاتها والصراعات في ما بينها على حصصها العربية. لن تتغيّر العادات والتقاليد، قديمها وجديدها، فبين الصلاة والصلاة قد تسقط البراميل الأسدية في إدلب وحماة أو يستهدف الاغتيال الإسرائيلي ناشطاً في غزة أو يُطلق الحوثي/ الإيراني صاروخاً بائساً آخر نحو السعودية أو تشتعل الجبهات جنوبي طرابلس. وبين الإفطار والسحور قد ترسل روسيا طائراتها لدكّ مدارس ومشافٍ ومخابز أو لقتل مسعفين لا يزالون يحاولون إنقاذ أرواح في شمالي سورية، وقد تجد إسرائيل أن ثمة أبنية سكنية أخرى في بنك أهدافها في غزّة ولا بدّ من تسويتها بالأرض. وبين تسقّط الأخبار، كما بين مسلسل ومسلسل، تختلط دراما الشاشات مع دراما الواقع، وبالنسبة إلى الآمنين وهم الغالبية لم يعد هناك فارقٌ فالشاشة واحدة وإن كانوا محبطين، أما الواقعون تحت النار فلا شاشة تنسيهم المعاناة التي يتعرّضون لها.

التحوّلات العربية مستمرة، وليس هذا شهر الصوم الأول الذي تشهده، لكن التطوّرات جعلت من توقيته منعطفاً إلى مرحلة أخرى وليست أخيرة. فقد بدا ظهور زعيم تنظيم "داعش" عشية رمضان بمثابة استدراج عروض للقوى الخارجية الراغبة في استخدام تنظيمه، فهو صالحٌ لكلّ الأجندات وعابرٌ لها، خصوصاً أنها بمجملها لا تبحث عن سلام أو استقرار بل عن مصالح تستلزم تخريباً لإدراكها، ولا شكّ أن هناك دولاً مهتمّة بخدمات "داعش"، فهو يتظاهر بأن لديه "قضية" وهي تتظاهر بأنها تحارب الإرهاب... بالتزامن أكثر جاريد كوشنر، مستشار دونالد ترامب وصهره، من الظهور الإعلامي ليقول أن "صفقة القرن" ستُطرح بعد شهر رمضان، ومع التزامه التكتّم حرص على إطلاق عنوانَين: "تكريس القدس عاصمة لإسرائيل"، وتجاهل موضوع "حل الدولتَين" لأنه "خلافي"، كما لو أن موضوع "القدس عاصمة" يحظى بتوافق عالمي. هذان العنوانان يختصران العقلية العفنة التي صيغت بها "الصفقة" ولن تستطيع اقتراحات المشاريع الاقتصادية تجميلها، كونها تفترض قبول الفلسطينيين قسراً باحتلال اسرائيلي أبدي لأرضهم ومصيرهم، بل قبول العالم طوعاً بأن يكسر التجبّر الأميركي القوانين والمواثيق الدولية.

ليس في الجمع بين "صفقة القرن" و"الصفقة" التي يسعى إليها زعيم "داعش" افتراءٌ ولا مبالغة، بل لأن كلتيهما تتوسّلان نوعاً خاصاً من الإرهاب وتفترقان في المظهر و"التنظير" والإخراج لتفضيا في النهاية إلى نتائج متشابهة. والأهم أنهما تتشاركان في قتل ونيّة قتل الوجدان العربي. وليس في الجمع بينهما حكمٌ محسوم بأن أميركا هي صانعة "داعش" كما تقول ايران وجماعة ما تسمّى "الممانعة" التي ربما كان لها معنى في ماضٍ بات بعيداً لكن تسويغها جرائم نظام بشار الأسد و"الحشد الشعبي" و"حزب الله" أفقدها كل معنى، أمّا الشواهد على انغماس النظامَين السوري والإيراني في تصنيع "داعش" فهي الأكثر شيوعاً وانتشاراً، كذلك على الاشتباه بأنهما قد تعيدان انتاجه، وكانت تركيا حاولت اللحاق بهما ولم تحصل إلا على اختراق للتنظيم، ومن خلالها تحقّقت اختراقات الجهات الأخرى.

التحوّلات العربية مستمرّة، إذاً، وسط صراعات متفاقمة تواكبها وتنعكس عليها، خصوصاً بين الولايات المتحدة وايران، كذلك الضغوط المتزايدة على تركيا. لكن عُقال التدخّلات الخارجية انفلت تماماً في سورية بفعل تنافس/ صراع أميركي - روسي، وتهافت إيراني - تركي - إسرائيلي، وصراع أميركي - إيراني واسرائيلي - ايراني، وتقلّبات أميركية - تركية شبه يومية، ولا أيٌّ من هذه العوامل يريد إنهاء المحنة بما فيها التوافق/ التواطؤ بين أميركا وإسرائيل وروسيا الموجّه ضد إيران، لكن ضد تركيا أيضاً في بعض جوانبه. نهاية المحنة تنتظر "توافقاً" لن يحصل بين هذه الأطراف، ولعل عودة روسيا إلى خيار الحسم العسكري في ادلب مثالاً على تلك الاستحالة إذ رغبت موسكو في توجيه انذار أنقرة لأنها تأخرت في تنفيذ التزاماتها في اتفاق سوتشي، والأهم لأنها تقترب من اتفاق منفرد مع واشنطن على "منطقة آمنة" في شمالي سورية.

في اليمن كانت طهران على بعد خطوة من إقامة جسر جوي مع صنعاء وآخر بحري مع عدن لأن الحوثيين كانوا بحاجة إلى اشراف ايراني مباشر وسريع لتركيز السيطرة على البلد قبل البدء باستهداف السعودية وسائر دول الخليج. هذه هي الحقيقة التي ينكرها بعض العرب وكثيرون في الغرب، لمجرد أن ايران تقول أنها لا تحارب على الأرض اليمنية ولا قوات لها فيها، لكن المنكرين يعرفون مَن أنتج الحوثيين ومَن يسلّحهم ومَن يخطط لهم ويوجههم. لا شك أن نهاية الحرب تنتظر حصول الحوثيين على حصة ثابتة في الدولة، لكن أي حل سياسي لن يمنحهم ما يفوق حجمهم حتى مع سيطرتهم حالياً على جزء مهم من اليمن، وأي امتياز للحوثيين سيكون مكافأة للإيرانيين على الدور التخريبي الذي ارتكبوه.

أما في ليبيا وعلى رغم أن الصراع داخلي على الثروة والسلطة وطبيعة الحكم إلا أنه منذ انطلاقه كان أيضاً انعكاساً لصراعات إقليمية ودولية على النفوذ والنفط ومجالات الاستثمار. أصبح هناك معسكران خارجيان يصعب التوفيق بينهما مع أنهما يؤكدان اعترافهما بـ "حكومة الوفاق"، لكنهما لم يعودا متفقَين على الجدوى من هذه الحكومة التي ابتكرت استناداً إلى اتفاق الصخيرات (أواخر 2015) الذي بدت ميليشيات طرابلس (معظمها إسلامي) متكيّفة معه في حين أن الجيش الوطني ومجلس النواب (طبرق) طلبا تعديله ليحظى بتوافق أوسع، وتعذّر التعديل. ومنذ إقامة هذه الحكومة في طرابلس كان واضحاً أنها واقعة تحت هيمنة ميليشيات سيطرت على العاصمة بعدما رفضت نتائج الانتخابات (حزيران/ يونيو 2014)، وهي توظّف دعمها لـ "حكومة الوفاق" لترجيح حل سياسي يناسب توجهها العقائدي وارتباطاتها الخارجية. وتعتبر حرب طرابلس الآن محاولة من الجيش الوطني لكسر هذا التوجّه عسكرياً، بعدما أخفقت كل المساعي لتغييره بالسبل السياسية. ولعل الموقف الأميركي الزئبقي مسؤول عن إطالة الصراع وعجز القوى الدولية عن التوافق على حل يتناسب مع طموحات الليبيين كما عبروا عنها في الانتخابات.

التحوّلات العربية مستمرّة، وحيث لا تكون هناك تدخّلات خارجية يكون ذلك أفضل. بل المؤكّد أنه حيث لا تكون إيران لا تكون سموم ويبقى هناك أمل في حلول وطنية توافقية، ولعله أصبح لازماً وضرورياً القول إنه حيث لا ينبري الإسلاميون، أياً كان نوعهم، للتصدّر وطرح بضاعتهم البالية يمكن الحفاظ على الدولة والمؤسسات وكذلك الشروع في بناء حياة طبيعية، بل يمكن التفاؤل باستقرارٍ وسلامٍ اجتماعيين. مثل هذا الأمل لا يزال حياً وقوياً في السودان والجزائر، حيث حافظ الشارع على سلميّته وحافظ الجيش على تفهّمه لمطالب الحراك الشعبي. هنا وهناك ثمة فرصة لطرفي المواجهة كي يتخلّصا من إرث ثقيل أساء إلى العلاقة بين الدولة والشعب، وحان الوقت لمصالحة تبدو ممكنة ولحلول وسط تعيد بناء الثقة. لا شك أن هناك مخاطر، بعضٌ منها أمني، لكنها لا تُعالج فقط ببقاء العسكريين في الواجهة أو بإصرارهم على صنع الرؤساء والحكومات والبرلمانات، وفقاً للعادة التي لم تكن طبيعية في أي حال.