تُنذر أجواء عرسال بالمزيد من التدهور، فالانفجار الذي أطاح «هيئة علماء القلمون»، ثم العبوة التي استهدفت الجيش اللبناني، هما أوّل الغيث. وربما يكون الآتي أعظم... المعلومات الواردة من عرسال تؤشِّر إلى أنّ «داعش» هي التي نفَّذت عملية التفجير ضد «علماء القلمون» المحسوبين على «جبهة النصرة» و«جيش الفتح». وهذه العملية تشكِّل امتداداً للصراع الجاري بين التنظيمين في داخل سوريا.

بالنسبة إلى «النصرة»، إنّ عرسال هي جزء من منطقة النفوذ التي تسعى إلى ترابطها بين سوريا ولبنان. وبالنسبة إلى «داعش»، هذه المنطقة هي أيضاً جزء من دولتها المنشودة. وفي اختصار، يتصارَع الطرفان اللدودان للسيطرة على عرسال، كما على المناطق الأخرى في سوريا.

وخلال الصيف الفائت، جرت مناوشات وتصفيات ومحاولات تصفية وخطف متبادلة. لكنّ المبادرة فيها كانت تأتي دائماً من جانب «داعش» التي تريد تغيير ميزان القوى لمصلحتها، وتعمل لإضعاف «النصرة» والحلول محلّها في السيطرة على عرسال.

وهذه البلدة باتت تضمّ 100 ألف نسمة، ثلثهم فقط من اللبنانيين. على المستوى السوري، تتفوَّق «داعش» على «النصرة» وحليفاتها قوة وتمويلاً وتنظيماً. ولكن، على مستوى عرسال، «النصرة» هي المسيطرة. ويحتشد الكثير من عناصر هذا التنظيم في مخيمات النازحين السوريين التي تتركز خصوصاً على أطراف البلدة، في منأى عن سيطرة الجيش اللبناني.

وتقيم «النصرة»، من خلال بعض الهيئات والجمعيات والروابط، المصنَّفة «معتدلة» أو «منفتحة»، ومنها «هيئة علماء القلمون»، اتصالات مع العديد من القوى في عرسال والداخل اللبناني. وهذه الاتصالات هي التي أتاحت لذوي العسكريين المخطوفين أن يعرفوا بأخبارهم ويتواصلوا معهم أحياناً.

لكن ما يجري في سوريا بعد التدخل العسكري الروسي دفع «داعش» إلى خيارات جديدة. وعلى رغم أنّ هذا التنظيم كان أقلّ تعرضاً للاستهداف الروسي من القوى الأخرى التي تقاتل النظام، فإنه يدرس الخطة التي سيعتمدها بعد سيطرة النظام على دمشق وامتداداتها، والتي قد تضطرّه إلى التمدُّد قسراً في الاتجاه اللبناني. ومن هنا رغبته في استباق التطورات والسيطرة على عرسال وجرودها قبل بدء موسم الثلوج وانسداد الطرق الجردية الوعرة.

وفي تقدير محللين أنّ «داعش» تستعد لمعركة عنيفة ستندلع في البقعة الممتدة بين جرود القلمون وريف دمشق، فموسكو تبدو مصرَّة على حماية الأسد في العاصمة والطريق المؤدّي من الساحل إليها.

ولذلك، ووسط المعلومات المتواترة عن نيّة الروس بناء قاعدة عسكرية لهم في العاصمة دمشق قريباً، ستباشر موسكو، على الأرجح، شنّ غارات عنيفة على المنطقة، لتواكب جيش النظام و»حزب الله» والتنظيمات الحليفة لإيران في الحملات البرية.

وفي هذه الحال، لن يكون أمام «داعش» سوى خيار اختراق الحدود اللبنانية بكثافة لتعويض الخسارة في الداخل السوري. وستحاول السيطرة على عرسال وجرودها، ومن ثم التمدُّد في مناطق شمالية لبنانية، والسعي إلى فتح منفذ لها على البحر.

وهذا المخطط تحدّث عنه قائد الجيش العماد جان قهوجي في مناسبات عدة، وأعاد التذكير به أخيراً، خلال لقاء داخل المؤسسة العسكرية جرى فيه التطرّق إلى الانعكاسات المحتملة لضربات الطيران الروسي، في المناطق الحدودية، على لبنان.

وتحدثت المعلومات الواردة أخيراً عن عملية تسلل واضحة، يُعتقد أنها لعناصر من «داعش»، من مناطق الحدود في القلمون إلى لبنان من خلال المسارب المفتوحة. وسجّلت التقارير تدفقاً مفاجئاً للرجال، لا للنساء والأطفال والشيوخ. وأوحى ذلك بأنّ «داعش» أرسلت عناصرها للاندِساس في صفوف المدنيين والتغلغل داخل المنطقة التي تسيطر عليها غريمتها «النصرة»، استعداداً للأسوأ.

وهذا الواقع أثار امتعاض «النصرة» المرتاحة إلى وقوع عرسال تحت سيطرتها بالكامل. فهي قادرة على استخدامها كورقة في أيّ اتجاه كان. ولذلك، بدأ النفور ينمو بين الجانبين تدريجاً.

لكنّ مأزق «النصرة» هو انها محاصرة تقريباً. فهي لا تسيطر حتى على الطرق التي تضطرّ إلى سلوكها، والتي تربط بين جرود عرسال والداخل السوري، خصوصاً بعد تقدم «داعش» الأخير على طريق دمشق- حمص في اتجاه بلدتي صدد ومهين.

وفي معارك الربيع الفائت، في جرود عرسال، بعد ذوبان الثلوج، تركَ «حزب الله» لـ»النصرة» معبراً في اتجاه الداخل السوري، لكنّ المعبر بقيَ أسير سيطرة «داعش».

وأكدت التقارير الأخيرة أنّ «داعش» حسمت المعركة تدريجاً مع «النصرة» وسائر التنظيمات المعارضة في المناطق الحدودية المحاذية للبنان، وأخضَعتها، وانضمّ إليها العديد من مقاتليها في تلك البقعة.

وبناء على هذه المعطيات، ازدادت شهية «داعش» للسيطرة في القلمون وعرسال، وهي تعتقد أنها قادرة على تصفية «النصرة» في عرسال وجرودها، بهزيمتها عسكرياً ودفع مقاتليها إلى الالتحاق بـ«داعش» التي ستقتضي خطتها، للتمدُّد في الاتجاه اللبناني، أن تخوض مواجهة مزدوجة:

- مع الجيش اللبناني الذي يستعد لأيّ مفاجآت عسكرية في مناطق حسّاسة كالقاع ورأس بعلبك، حيث تحاول الجماعات الإرهابية التقدم. وهو لذلك
حصَّن مواقعه بأبراج مراقبة متطورة زوَّدته إيّاها بريطانيا وكثّف دورياته في الأيام الأخيرة.

- مع «حزب الله» الذي بات في مواجهة مباشرة مع «داعش» في نقاط حدودية متقاربة، ومن البديهي أن يقع الصدام على الأراضي اللبنانية في هذه الحال.

وإذ تتحدث التقارير عن تراجع في القدرات المالية والعسكرية لدى «النصرة»، بسبب تخلّي القوى العربية والإقليمية الداعمة عنها، فإنّ «داعش» تبدو في وضع أفضل لأنّ قدراتها كبيرة في الحصول على التمويل من جرّاء بيع النفط في السوق السوداء، واختراق الحدود السورية - العراقية. ومن هنا، فإنّ «داعش» تبدو أكثر ارتياحاً واطمئناناً إلى المصير.

وسبق أن تسرّبت معلومات عن عناصر «النصرة» في منطقة عرسال مفادها أنّ انقطاع مصادر التمويل عنهم هو أحد الأسباب الأساسية للهدوء الحاصل هناك. فالتنظيم بلغ حالاً من الضعف المالي لم يعد معها قادراً على شراء الأسلحة والذخائر.

وقد استغلّت «داعش» هذا الواقع لتعرض على هؤلاء العناصر الالتحاق بصفوفها. وقد تَحقَّق لها فعلاً ما أرادت، ولكن جزئياً، لأنّ «النصرة» قادرة على التأقلم مع الوسط العرسالي، خلافاً لـ»داعش»، علماً أنّ «النصرة» هي «تنظيم «القاعدة» في بلاد الشام».

ومن شأن الاشتباك بين «داعش» و»النصرة» في عرسال أن يترك أثره على ملف العسكريين المخطوفين لدى التنظيمين. وإذ وقع التفجير الأخير فيما كان ذوو المخطوفين في السفارة التركية يحاولون تحريك وساطة جديدة لتحريرهم، فإنّ البعض يخشى أن ينعكس اشتداد وتيرة الصراع بين الطرفين تعقيداً في الملف.

ومن المؤكد أنّ لبنان سيكون أكثر إحراجاً في هذا الملف، إذ سيقع بين خيار المهادنة حفاظاً على أرواح عسكرييه، وخيار المواجهة الذي تفرضه المقتضيات العسكرية وواجب الدفاع عن الأرض والشعب.

ومن هذه الزاوية، يمكن النظر إلى عملية التفجير التي استهدفت الجيش في عرسال، بعد استهداف «علماء القلمون». والأرجح أنّ «داعش» أرادت توجيه رسالة متعددة المعاني إلى لبنان، والجيش خصوصاً:

1- تحذيره من استغلال المواجهة المنتظرة بينها وبين «النصرة» لإحباط مسعاها للسيطرة على بقعة عرسال.
2- تذكيره بأنها تمتلك جزءاً من ورقة المخطوفين العسكريين.
3- تهديده بزعزعة الاستقرار والعودة إلى لغة التفجيرات، إذا حاول التصدي لعملية التمدُّد التي تسعى إليها في لبنان.


وهكذا، تبدو الحدود اللبنانية - السورية أمام استحقاق ساخن ومرتبط مباشرة بالحدث السوري، ليس واضحاً توقيته. وهذا الاستحقاق سيرسِّخ المقولة التي لطالما تغنّى بها البعض: «شعب واحد في دولتين»، ولكنهما مفكَّكتان، و»وحدة المسار والمصير»، ولكن إلى الهاوية!