من أوليات مبادئ نقد الفكر الديني السائد , هو التمييز والفصل بين الدين الذي هو عبارة عن مجموع النصوص المقدسة الثابتة تاريخيا , وبين الفكر الديني الذي هو الاجتهادات البشرية وبذل الجهد العلمي البشري لفهم تلك النصوص وتأويلها من أجل إستخراج دلالتها , ومن الطبيعي أن تختلف الاجتهادات , لأن القارئ مختلف من حيث العصر والبيئة والثقافة , والواقع الاجتماعي الذي يعيشه والعامل الجغرافي الذي يحتضنه , ونرى هذا واضحا بين مفكر وآخر , ونرى الانتاج الفكري سواء كان ديني أو ما يتعلق بالفكر الإنساني , مختلف بإختلاف طبيعة المفكر وتكوينه وأسباب وطريقة تشكلات معطياته العلمية .

بما أن الاختلاف واقعٌ لا محالة , بآلية قهرية لا يمكن ضبطها , لأن ضبط وتحديد الانتاج الفكري يخالف الاليات العلمية بكل حقول المعرفة , لأن البحث العلمي يبدأ من أجل الوصول الى نتيجة ما , فإذا حُدّدت نتائج البحث مُسبقا نقع في محظرين :

الاول  : أن الباحث يتقيد لا إراديا بالنتيجة التي صوّرَت وإنطبعت في ذهنه فلا يستطيع الخروج عنها , فمهما إجتهد وبذل من الجهد العلمي سوف يصل إلى نفس النتيجة التي تحقق تصورها وإنطباعها قبل البحث وهذا ما نراه في نتائج البحث الفقهي عند الفقهاء المسلمين من تشابه في الانتاجيات الفقهية , " من فتوى وأحكام , واذا أردنا أن نشبّه إنتاجهم يمكن أن نقول : إنها نسخ متكررة منذ مئات السنين تختلف فقط من حيث إسم الفقه أو إسم الكتاب " .

الثاني : فرض تجميد حركة التغيير الفكري بما يتناسب مع الفكر المعاصر , ومنع التجدّد الفكري , وهنا تكمن خطورة هذه الالية لأنها تحوّل العقل إلى أسير وتابع للنص , وتتحدد مهمة العقل فقط في إستثمار النص لتبرير الواقع مهما كان الواقع , بدل أن يكون العقل حاكما على النص ويستخرج منه ما يناسب متتطلبات الواقع الفكري الراهن وغيره , من أجل عدم التعارض بين الفكر الديني والاسلام " الدين " .

نلاحظ كيف إنتهى الخطاب الديني إلى التعارض مع الاسلام , لأنه تعارض مع أهم أساسيات الاسلام وهو " العقل " , بسبب حاكمية النص للعقل , وتقديم النقل عليه , بدل أن يتقدم العقل على النص , لأن العقل هو الاساس المعرفي للدين وهو الذي يتحمّل مسؤولية فهم النص وتوجيهه وليس العكس , فحركة التجديد تحتاج إلى إعادة موضعة العقل في مكانه , ومن ثم إعطاؤه دوره الاساس , وهذا لا يتم إلا بإعادة تأسيس دور العقل في الفكر والثقافة .

بالاصل إن السلطة هي للعقل , لأنه هو الذي أنتج الفكر الديني , فلا يصحّ أن يتحول الفكر الديني حاكما على مَنْ أنتجه , تماما كما أن الله هو صاحب النص المقدس فلا يكون النص المقدس حاكما على أصل العقول الذي هو الله , فتبقى الحاكمية لله على النص المقدس " الدين " كذلك ينبغي أن يبقى العقل حاكما على " الفكر الديني " ويحق له أن يصوّب ويصحح ويغيّر ما أنتجه بناء على تغّير الزمان والمكان , فحتى نعطي العقل دوره الاساس بالسلطة على الفكر الديني لا بد من الفصل بين والتمييز بين الدين وبين الفكر الديني , وبالتالي لا نقدس الفكر الديني كما نقدس الدين , كي يمارس العقل دوره بمتابعة الفكر الديني ونقده الدائم .