قسم التاريخ الأكاديمي هو مؤسسة محافظة. وليس من السهل فصله عن طقوس الأرشفة التقليدية. أبدت بنيته الرنكية مقاومةً لافتة للتيارات النظرية القادمة من أقسام العلوم الإنسانية، وقد فوجئ الكثيرون بالضعف التحليلي والنقدي لدى مؤرخين كبار. يكاد يكون هناك اعتداد احترافي بالاقتصار على المستوى الحدثي للتأريخ، المستوى الثالث الذي يتحدث عنه فرنان بروديل.

المكوِّن المحافظ لقسم التاريخ الأكاديمي يستأهل قراءةً نقدية منفصلة، تحليلاً أركيولوجياً لهذا القسم يبيّن علاقته التزامنية مع باقي الأقسام وحتى المؤسسات خارج الأكاديميا التي قد تكون أكثر ارتباطاً به. فقط في النصف الثاني من القرن العشرين بدأ التأريخ، ولو متفرقاً، يتطرق إلى حقول جديدة كتاريخ المراسي والإبحار وتاريخ القمح وتاريخ الحرير والأصباغ والألوان، وتاريخ المواصلات والاتصالات.
ولكن حتى في ظل «حمى الأرشيف»، ليس أقله منذ روسو وحرصه على تسجيل أدق تفاصيل حديقته وترتيب ملاحظات المشاهدة والمعاينة حين صاغ ممارسة الأوتو-بيوغرافيا، وفي موازاة النظام السياسي لهذا الأرشيف الذي يصفه دريدا، بقيت هناك مساحات لا تصلها الكتابة التأريخية، نوع من مساحات مظللة لا يسلّط عليها الضوء، نسميها «التظليل التأريخي». طبعاً، هذه المساحات هي التي تَمنح التأريخ قيمته السياسية: التأريخ هو نَظم التدوين وعدمه وليس حلماً بتدوين الوجود.


الفتاوى الميسّرة
تَجتذب المال والعلاقات السياسية والإعلامية وكذلك الفتاوى المتشدّدة

 


أبرز هذه المساحات المظللة هي ما يدور داخل المؤسسة الدينية الواحدة من صراع بين رجال الدين. تبقى هذه الصراعات عادة نهب السماع والتناقل الشفاهي. ورغم أن بيانات التشهير المتبادل تطبع بكميات كبيرة، وتَنخرط في ترويجها وجدالاتها شرائح اجتماعية واسعة ومتعددة، إلا أنها لا تؤرشَف ولا تُكتَب عنها الأطروحات.
غياب صراعات المؤسسة الدينية عن أضواء التأريخ هو الذي يُضفي اللمسة الطهرانية على علماء الدين القدماء، إذ أن تصوّرنا عنهم يشوبه الكثير من الطوباوية والاعتقاد بأنهم أفضل من علماء الدين الراهنين.
إن ما يُكتَب في إطار هاغيوغرافيا سِيَر القديسين في بعض المنشورات والمؤسسات التابعة لهذه المؤسسة الدينية أو تلك لا يمكن عدّه تأريخاً، وكذلك الكتابات التشهيرية المقابلة التي تسعى إلى النيل من رمز ما. وبالتالي لا يمكن الاعتماد على مؤرخ الكرسي البطريركي مثلاً لكتابة قراءة نقدية، إلا من حيث كونه وثيقة تعبّر عن موقف أحد الأطراف، الطرف الرسمي في هذه الحالة.

ما وراء الحق والباطل

المسعى هنا هو تحفيز الأنثربولوجيين وعلماء الاجتماع لقراءة ونقد تجربة أو ظاهرة ما في المؤسسة الدينية بعيداً من آداب التقديس والتشهير. والأهم أن نتجاوز ثنائية الحق والباطل الأخلاقية وفهم السلوك في سياقات براغماتية، إنها صراعات على النفوذ، وليست نقاشات لاهوتية في جوهرها. ورغم أن هذا المطلب قد يعدّ سهل المنال في حقول أخرى، إلا أنه في ما يتعلق بقراءة تاريخية لصراع داخل مؤسسة دينية ما سيبدو الأمر أكثر تعقيداً ومراوغةً.
هكذا يصبح ذهاب السيد موسى الصدر إلى كنيسة الرهبان الكبوشيين في بيروت ليس انفتاحاً بل استثماراً براغماتياً لبناء شبكة سياسية من التحالفات والعداءات، وكذلك اعتذار البابا يوحنا بولس الثاني من اليهود لعدم ممارسة الكنيسة الكاثوليكية جهوداً لإيقاف الهولوكوست.
وبدلاً من تقديس أو شيطنة جورج كيوان، الظاهرة المستجدة، يَجدر بنا مناقشة أسباب ولادة هذه الحركات كحالة تاريخية ووضعها في سياق أشمل، وأن نَترك الحكم الديني على هذه الظاهرة بيد التراتبية المتبعة في الرهبنة الأنطونية واللجان الكنسية المختصة.
في مراجعة الصراعات الداخلية للمؤسسات الدينية، وفي إطار الحديث عن براغماتية السياسات، من اللافت أن رجال الدين الذين يُبدون مبالغةً في الانفتاح أو الانغلاق هم الأكثر فساداً من الناحية المالية. في الواقع لم تُدرَس بشكل جدي أنثربولوجيا العلاقة بين المؤسسة الدينية وسياساتها المالية واقتصادها، معظم الدراسات انصبت على علاقاتها السياسية واشتباكها الطبقي وكرونولوجيات تطورها المدرسي. هل من الصدفة أن ثروات كل من التقليدي السيد الخوئي والليبرالي السيد فضل الله تقدر بالمبلغ نفسه: مليارَي دولار؟
الفتاوى الميسرة تَجتذب المال والعلاقات السياسية والإعلامية (فقهاء بني العباس شرعوا الخمر)، وكذلك الفتاوى المتشدّدة. فنمطا الفتاوى هذان لا يحتاجان إلى جهد أصولي استنباطي جدي، كما أنهما يغذيان بعضهما بعضاً في مسعاهما لاستقطاب كل الشرائح الاجتماعية إلى ميدان صراعهما. آمنة ودود، التي أمّت الرجال في الصلاة، ستَستقطب شرائح واسعة حتى لو لم تكن ممارستها مبنية بإحكام فقهياً.

محنة الحوزة الشيعية

إشكاليتَا التأريخ والمال الديني تتخذان أبعاداً أكثر تعقيداً حين نأتي إلى المؤسسة الدينية الشيعية والتحولات التي طرأت عليها أخيراً. هي مؤسسة تعاني أصلاً من أزمة ذاكرة ونظامها المالي يَسمح بمساحات واسعة من الفساد لعدم وجود هيرارشية.
قبل أن نَدعو الشيعة إلى التنبُّه إلى الظلال التأريخية ومعالجتها، علينا أن نُدخل فكرة التاريخ في العقل الشيعي، اللبناني بالذات. للمتاولة تاريخ من طمس تاريخهم، يَجهدون لطمسه، تاريخ ضد التاريخ، ليس فقط على مستوى التدوين بل حتى الشفاهي منه.
أبرز الأمثلة على ذلك هو الشيخ ناصيف النصار. قاد النصار المتاولة، هو الاسم التاريخي لشيعة لبنان، عسكرياً وسياسياً وحَرّر أجزاء واسعة من لبنان من السلطنة العثمانية، وأَنشأ علاقات دبلوماسية مع الإمبراطوريتين النمساوية والروسية.لم يكن مجرد قائد محلي عابر. تشاء الذاكرة الشيعية وممارستها السوريالية، والتي ليس من المستبعَد أبداً أن تُعاد مستقبلاً مع شخصية هائلة التأثير كالسيد حسن نصر الله، تشاء هذه الذاكرة أن تنساه، كما أَسقطت من قبل الكثير من الشخصيات والأحداث. في قرية يارون الجنوبية قبر ناصيف النصار مجهول من قبل أهل القرية أنفسهم ناهيك عن باقي أبناء الجنوب. نَكتشف لاحقاً أن هذا القبر ليس للنصار وحده بل لأربعمئة غيره من المقاتلين كذلك. إن حال القبر الرث هو من حال الذاكرة الشيعية. نَكتب هنا داعين إلى اقتحام المساحات المظللة في التأريخ، في وقت ندرك جيداً أن لا أضواء في التأريخ الشيعي كي تكون هناك ظلال، نوع من تحسّس تجاه الأضواء، تقية تأريخية متطرفة.
أما في الجانب الآخر المتعلق بنظام الحوزة الشيعية واقتصادها، فهناك بنية قديمة للمؤسسة وكثير من التحولات تكاد تطيح بهذه البنية.


قبل الثورة الإسلامية
في إيران كان الذهاب إلى الحوزة للدراسة نَذْراً للنفس لحياة الفقر



قبل الثورة الإسلامية في إيران كان الذهاب إلى الحوزة للدراسة نَذْرا للنفس لحياة الفقر، أشبه بتكريس النفس للرهبنة والتقشف في الأديرة. ولكن الأمور تبدلت باتجاهين متناقضَين: نفوذ سياسي ومالي أوسع لعلماء الدين وتفكيك تدريجي لمؤسستهم لمصلحة مؤسسة أخرى قيد الإنشاء والتطوير.
بسبب حداثة التجربة فإن أموال الخمس التي تراكمت بحجم غير معهود سابقاً ذهبت في طريقها التقليدي، أي أن تصبح ملكاً شخصياً للمرجع، وممتلكاته هذه تُورّث إلى أبنائه. في الواقع، لا يحقّ لمن لم يجد مقاربة جديدة وجدية لأموال المرجعية أن يَنتقد الانتقال الحاصل في الأموال من السيد فضل الله إلى أولاده ومن قبله السيد الخوئي. وبدلاً من أن يناقَش هذا الموضوع بعمق ووفق رؤية اقتصادية اجتماعية أشمل، فإن الأمر حتى الآن يَقتصر على المناكفات التي تريد النيل في المستوى الشخصي.
وفي موازاة مراكمة الأموال لدى المراجع الدينية وغياب مؤسسة حقيقية لإدارتها، بات هناك إفساد سياسي لمؤسسة الحوزة. هناك قاعدة ضمنية استجدت: لا يُعترَف بك كمرجع إذا لم يكن لديك نفوذ سياسي. ومع مرور الوقت، صار السياسي مع قليل من الدراسة الحوزوية يعلن مرجعيته مستنداً إلى شريحة اجتماعية مؤيدة له سياسياً في المرحلة الأولى، لاحقاً يتحوّل إلى تأييد ديني مرجعي.
إن المقبل من السنين سيَحمل تحولات جذرية في المؤسسة الدينية الشيعية. انتشرت كثير من المعاهد الدينية غير الحوزوية، ولاحقاً بدأت تطغى في سلطتها على الحوزة، وانتشرت معها مقولات الاستخفاف بالحوزة التقليدية، وأن الحوزة لا علاقة لها بالمستوى الأرقى، ألا وهو تهذيب الروح. الثورة الدينية هذه المرة تأكل أبناءها، علماء الدين أنفسهم. تركّز هذه الاتجاهات الجديدة على الروحانيات والصوفيات بدلاً من الفقه التقليدي، وفي أوساطها مروحة واسعة من التيارات غير العقلانية، وحتى التكفيرية. ليس تكفيراً للسني بل للقريب الشيعي. وقد تمكّنت قيادة حزب الله، وبالتحديد السيد نصر الله، من كبح هذه التيارات، لكن الأخيرة عادت وأَوجدت موطئ قدم لها، ولو محجمةً ووفق شروط صارمة،بعد أحداث 2005 حين اضطرّ الحزب لاستيعاب كل الأطياف الشيعية لإراحة ساحته الداخلية.
بدأنا نجد دعاةً لم يمرّوا بالتعليم الحوزوي يفسّرون القرآن تفسيرات عرفانية هي أبعد ما تكون عما وصفه الإمام الخميني، ويُتقنون في مؤسساتهم اللغة الشعبية أكثر من الحوزويين. إنه اتجاه تَعرف كيف تبدأه، ولكن من غير الممكن معرفة نهاياته لأنها ستكون خارجة عن سيطرة المؤسِّس. الدكتور محمود أحمدي نجاد، الذي قَدَّم لإيران ما لم يقدمه رئيس آخر من حيث ميزانيات التطوير العلمي والتكنولوجي، هو مثال على نتاج هذه التيارات. فهو عاد من نيويورك قائلاً إنه رأى عموداً من النور أمامه في الأمم المتحدة، وصهره رحيم مشائي يقول إن مجلس الشورى الإيراني لا يحقّ له رفض ترشيحه للرئاسة لأنه ترشح بناءً على طلب الإمام المهدي.
تدريجياً بدأ تحلُّل سلطة الحوزة داخل الوعي الديني الشعبي لمصلحة هذه المؤسسات المستجدة: المعاهد الدينية. لا تزال هذه التيارات تحت السيطرة من حيث المبدأ، ولكن من الواضح أنها تحث الخطى لإنشاء مؤسسات و»أئمة» كاريزماتيين غالباً ما يتحاربون في ما بينهم. والمشكلة أن كثيراً من الشباب والطاقات ذات الاتجاهات الفلسفية تَجتذبهم هذه التيارات وتَستهلكهم في دوامة مناكفاتها في الروحانيات، وبالتالي يُجهَض الفكر الفلسفي التاريخي بدل تطويره.
مآل هذه الاتجاهات غير واضح: هل تكون تقدُّماً إيجابياً على النمط البروتستانتي أم تخلفاً على الطريقة الوهابية؟ ليس من السهل وضع تصورات دقيقة حول مستقبلها. لكن الأمل معقود بمؤسسات تَجمع الاتجاه الروحي والتاريخي معاً بتوازن دقيق ورصين، بالأحرى هي مؤسسة فلسفية تكاد تكون وحيدة تلك التي يديرها الشيخ شفيق جرادي.
مما ورد آنفاً يمكن كتابة «مقدمة ضرورية» لأي تأريخ مقبل للصراعات داخل الحوزة الشيعية منذ أواخر السبعينيات وحتى اليوم.

 

مؤسسات إخوانية تقليدية

أَدخل السيد فضل الله على هذه البيئة المذكورة عاملاً أساسياً يتمثّل في فكر الإخوان المسلمين من خلال التأثُّر المعلَن لحزب الدعوة بهم: فكر الإخوان التجاري والاجتماعي وحتى العقدي.
إن فكر الإخوان المسلمين كان دائماً ما يُهمل فكرة المدينة ونظام الدولة لمصلحة فكرة الجماعة الحزبية وقوتها الذاتية. يمكن اعتبار ذلك عنصراً عربياً بامتياز. يكفي مثلاً أن نَقرأ النشيد الوطني الأردني، هناك لا ذكرٌ على الإطلاق للأردن أو للشعب أو للدولة والأرض، هناك فقط ملكٌ يتمنون له المجد وأن يُصبح مليك العرب. فكر الإخوان وفكر العرب كان دائماً فكر الملك وأحكامه.
في أواخر الثمانينيات، ومع بروز الشيعة كقوة سياسية وعسكرية وما رافق ذلك من قدرات مالية مستجدة، شَهدت الضاحية الجنوبية لبيروت طفرة عمرانية كبيرة، ثم تلتها طفرة ثانية أوائل التسعينيات عند نهاية الحرب الأهلية.
اللافت أن مقاولي هذه الطفرة العمرانية الذين حَكموا على الضاحية بالفوضى لعقود مقبلة نتيجةً لمخالفاتهم في البناء، والذين كَرّسوا فكرة الضاحية كمكان غير قابل للتنظيم، كانوا بمعظمهم من حواريي السيد فضل الله الذين يَدفعون أخماسهم لديه. من غير المعروف إذا ما كان السيد فضل الله ينهاهم عن الاعتداء على المجال العام والممتلكات العامة وعن تدمير مدينتهم في خلواته الخاصة بهم، ولكن الأكيد أن فكر الإخوان الذي ورّده لا يَحمل أي بصمة من سمات المدنية.
مؤسسات السيد فضل الله بالعموم لا تَحترم المجال العام للمدينة وتخالف قوانين البناء بمستويات لا يتجرّأ المقاول العادي على ارتكابها. الحديث هنا ليس عن الكارثة المدنية لمسجد الحسنين بل عن سياسة عمرانية متبعة لدى كل مؤسساته، من المبرات إلى محطات البنزين إلى مطعم الساحة التي تَقضم جميعها مساحات غير قانونية من الأراضي وأجزاء من الطرقات والشوارع المحاذية، أو بالأحرى التي كانت محاذية، كون مباني المؤسسات أصبحت جزءاً من الشارع. في إيران، حيث الثقافة تَختلف كلياً عن العقل العربي العشائري غير المديني، كان هناك اهتمام لافت بالحيز والفضاء العام حتى في أوج سنوات الحرب المدمرة مع العراق. في إيران، يَنتمي المواطن إلى مدينته أولاً، وفي أسوأ الأحوال إلى إثنية عامة في بعض المحافظات الطرفانية، وليس إلى عشيرة أو قبيلة كما في العالم العربي. ولهذا تأثير كبير في فهم علاقة المواطن بالمدينة وعمرانها. الدولة وسلطان السياسة غير القبلية لا يَكتملا من دون ممارسة مدينية لا نجد أي أثر لها في مؤسسات السيد فضل الله.
المؤسسة الوحيدة ذات الفائدة العامة لدى السيد فضل الله هي مكتبة الحسنين العامة، والتي تسعى لأن تصبح المكتبة العامة الأهم في لبنان خصوصاً من حيث المصادر العربية، وتضمّ طاقماً جدياً يُديره بكفاءة السيد شفيق الموسوي.
والسمة الإخوانية الثانية في نمط الاستثمار المالي لدى السيد فضل الله هو عدم الاستثمار في الخارج. بمعنى أن كل الاستثمارات التجارية للسيد فضل الله هي داخل المجتمع الشيعي، وبالتالي فهو لا يأتي إلى هذا المجتمع بإيراد مالي من خارجه. لذلك كان يُقال إن الإخوان هم تجار ماهرون ولكن مجتمعهم هو الأقل استفادة منهم، وبالعموم نشاطهم تجاري غير صناعي. ورغم انفتاحه على الآخر السني إلا أن محطات وقود الأيتام لم تجد لها أي موطئ قدم هناك. المجتمع الشيعي لا يتمتّع بقيمة مضافة نتيجةً للنشاط المالي لمؤسسات السيد فضل الله.
في الواقع، الضاحية الجنوبية ليست بحاجة إلى تجار ولا مقاولين، هناك ما يكفي. والحركة التجارية في الضاحية تساوي أكثر من ثلث الحركة التجارية في كل لبنان كما تؤكد دراسات مالية محلية.
الضاحية الجنوبية هي اليوم بحاجة إلى فكر عمران المدينة، إلى حركة اجتماعية لا تَفصل العمل السياسي وحتى الديني عن العناية بفضائه. الاتجاه الحضاري في الضاحية يَكمن في استغلال النفوذ من أجل تثبيت مفهوم الحق العام واحترام الأملاك العامة والنظام والقانون، وليس استغلال النفوذ من أجل الاعتداء عليه. مجتمع الضاحية ليس متخلفاً ولكن لم تتسنّ له مرجعية تراقب عمرانه واحترام الفضاء العام فيه، وتَفرض ذلك بنداً دينياً لا يقلّ أهمية عن باقي فروض المذهب.
ولكن في المقابل، فإن السيد فضل الله ومن خلال علاقته الوطيدة بالإخوان المسلمين كان فرصة ولا شك لتفادي تداعيات الفتنة السنية الشيعية، ويتساءل كثر إنْ كانت الأمور ستصل إلى ما هي عليه الآن لو كان للسيد فضل الله كلمة نافذة. فقد كان السيد فضل الله يتلقّى سهام الاتهام بالتقرُّب العقائدي من السنة في سبيل تذويب الجليد بين المجموعتَين. كان يحظى باحترام واسع في أوساط علماء الدين السنة والحركات الإسلامية السنية لا نجده بهذا المستوى لشخصية دينية شيعية أخرى، ونحن بحاجة ماسة إلى شخصيات بهذه الميزات في عصر الفتنة المتجددة.
ويبقى السؤال ما إذا امتلك السيد فضل الله نظرية للانفتاح، أم أن الأمر اقتصر على أدبيات انفتاح وشعر انفتاحي يَصلح للتداول الإعلامي أكثر منها لوضع استراتيجيات حقيقية. بالمناسبة، فإن كثراً اعتَبروا أن مطارحات الشيخ محمد مهدي شمس الدين في نظرية الانفتاح كانت أكثر عمقاً وجرأة من تلك لدى السيد فضل الله.

حروب المرجعية

وهنا نأتي على الصدام الذي حصل بين السيد فضل الله وحزب الله، وهو الصدام نفسه بين فتح الله غولن وحزب العدالة والتنمية في تركيا. شخصية دينية كارزماتية تَملك أرصدة شعبية داخل حزب ما، يبدأ الأمر بالتحالف، ثم تخشى قيادة الحزب من تشكيل هذه الشخصية لحالة مفارقة داخل جسمه التنظيمي، ومن ثم تبدأ الخلافات تدريجياً. كما أن الجامع المشترَك بين فضل الله وغولن هو تكوينهما لمؤسسات تربوية ودينية خرّجت في وقت سابق عناصر وقيادات في الأحزاب التي كانت متحالفة معهم. والأهم أن تَجربتَي السيد فضل الله وغولن أَثبتتا أن الأمر في النهاية هو للتنظيمات وليس للشخصيات مهما كانت نشيطة.
وفي الصدام تُستخدَم الأسلحة المحرمة اجتماعياً أحياناً، مثلاً اتهام إيران بأنها لا تريد مرجعاً عربياً، والاتهام المقابل بالانحراف الديني والخروج على المذهب.
الاحتواء المتبادَل هو عنوان السنوات العشر الأول تقريباً من العلاقة بين السيد فضل الله وحزب الله، كان كل طرف يَعتقد أنه نجح في احتواء الآخر. ولكن بعد وفاة السيد الخوئي ومن بعده السيد الكلبيكاني، بدأ حزب الله يَخشى من استقلالية السيد فضل الله. أُضيف إلى ذلك علاقته الوثيقة مع المخابرات السورية التي بدورها حَرّكت الشيخ صبحي الطفيلي، وكان السيد فضل الله متعاطفاً معه وداعماً له خلف الستار من خلال شبكة وكلائه في البقاع: كان السيد فضل الله يخشى أن خسارة الشيخ الطفيلي ستليها خسارته الشخصية. بعد وفاة السيد فضل الله ومن خلال القيمين على مؤسساته تطور الأمر إلى علاقات طيبة مع حكومات خليجية، ومن اللافت أن ترخيص قناة الإيمان مقره العاصمة البحرينية المنامة (تراخيص القنوات التلفزيونية في لبنان صعبة التحصيل، لذلك تسعى معظم القنوات الناشئة للحصول على تراخيصها في دول أخرى). اعتَبرت الحكومة البحرينية أن السيد فضل الله مدخل على شيعة من نوع مغاير لإيران. في هذا الصدد، كان تقرير البندر قد أشار إلى ضرورة تحسين العلاقة مع السيد فضل الله والسيد هاني فحص. في الواقع، من الجيد أن يبقى هناك طرف شيعي يَنسج علاقات جيدة مع هذه الحكومات، القطيعة الكلية لا تُنتج إيجابيات.
في الثمانينيات، تحالف السيد فضل الله مع حزب الله مقابل تحالف الشيخ محمد مهدي شمس الدين مع حركة أمل. من غير الواضح لماذا كان ترتيب التحالفات بهذا الشكل. ذلك أن منطق السيد فضل الله الاستثماري والسياسي أقرب إلى منطق الرئيس نبيه بري، وفكر الشيخ شمس الدين يَنسجم بسهولة مع فكر حزب الله، علماً أن لا السيد فضل الله ولا الشيخ شمس الدين كانا يوافقان على نظرية ولاية الفقيه بنسختها الإيرانية.
لكن بعد العام ألفَين تبدّلت أجواء التحالفات. بدأ جمهور حزب الله يرى في الشيخ شمس الدين عالماً ومفكراً لم تجر الاستفادة منه، وفي المقابل بدأ يَظهر تحالف بين السيد فضل الله والرئيس بري توّج بالغداء الذي حضّره لهما صهر الأول الشيخ أحمد طالب، والذي أصبح لاحقاً عراب العلاقة مع الجمعيات المحسوبة على السفارة الأميركية وعلى رأسها «اليو أس ايد». على طريقة مارسيل خليفة الذي يُبدع في أغاني المقاومة في حفلات المنظمة نفسها، التي تكرس نفسها رسمياً لــ «حماية مصالح الولايات المتحدة والحفاظ على قيادتها للعالم».
فقط اغتيال الحريري 2005 كان بإمكانه الخروج بالسيد فضل الله ونبيه بري رابحَين: لقد انتهت حرب الإلغاء ضدهما، لا بل أصبحا محتضنَين من قِبَل حزب الله.
أَثبت السيد فضل الله أنه غير قابل للإلغاء رغم كل الضغوط. وقبيل العام 2005 ومع ذروة الحرب عليه كان يتحضّر لتفجير مفاجأة، يُبرهِن من خلالها على أنه أكبر من أن يُبتلَع: بدأ تحالفاً مع الرئيس بري، وكان ذلك سيَمنح الرجلَين ثقلاً شعبياً واسعاً يَجمع كل المعترضين على حزب الله.
لقد وَرّث السيد فضل الله الجماعة المحيطة به توتراً يتظهّر عند بداية ونهاية شهر رمضان من كل عام. والحديث السطحي الدائم عن العلم في تحديد الشهر يُخفي شعور السيد فضل الله بالمظلومية.
كان السيد فضل الله يَطمح لأن يَلعب دوراً أكبر بكثير من ذاك الذي حقّقه، أن يصبح قيادياً نافذاً في كل العالم الإسلامي السني والشيعي، العربي وغير العربي. والحق أنه كان نشيطاً بما فيه الكفاية لتحقيق ذلك، إلا أن ظروف موقعه المحلي والسياسي لم تسعفه.
رغم كل الضغوط، بقي السيد فضل الله متوازناً ومسؤولاً في تصريحاته، ورغم الإغراءات لم يُقدِم على تأسيس حزب منفرد ولم يتساهل مع فكرة العنف الداخلي رغم التحجيم.
مَنْ ربح هذا الصراع؟ على الأرجح حزب الله، ولكن بطريقة مغايرة تماماً لما كان يخطّط له.كان حزب الله يَعتقد أن قوته في الساحة الشيعية تَكمن في تحجيم السيد فضل الله والرئيس بري، والترويج لجميل السيد رئيساً لمجلس النواب. ولكن بعد عام 2005 اتسع نفوذ حزب الله وأصبح لاعباً إقليمياً يزداد قوةً، لقد أَصبح حزب الله أقوى وأكبر بكثير من أن ينازعه أحد. هذا الأمر جعل حزب الله أكثر اطمئناناً لجبهته الداخلية وأكثر سخاءً وتسامحاً في التعاطي مع باقي الفرقاء الشيعة. لاحقاً سيكون التأريخ لحزب الله، بالذات تحت قيادة السيد نصر الله، العمل الأكثر مهابةً لأي باحث، وتكاد تكون التجربة الحزبية الوحيدة التي تستأهل الكتابة النقدية في العالم العربي والإسلامي.
هل تستمرّ حالة السيد فضل الله أم أنها ستَندثر مع مرور الوقت؟ وإذا استمرّت، هل سيتحوّل تياره إلى تيارات متصارعة أم يرثه رجل محدد؟ هل الشيخ حسين الخشن قادرٌ على وراثته حوزوياً. المشكلة أن هذه الحالة التي خلّفها السيد فضل الله باتت أرضاً خصبةً للاستثمار من أي ناحية كانت، من دون أن يكون للسيد فضل الله قراراً فيها بعد غيابه.
يبقى الأهم أن نسعى إلى تثمير حالة السيد فضل الله وإرثه مستقبلاً، إلى وضع تصوُّر سياسي اجتماعي له، بدل أن يكون تربةً خصبة للاستثمار السلبي من قبَل جهات إقليمية ودولية.
هل سننتظر شاباً بريطانياً يحضّر أطروحة في الدكتوراه ليَكتب تاريخ الصدام الذي حصل بين السيد فضل الله وحزب الله، فيَكتب ما يُريد ووفق الأجندة التي تُريدها أجهزة استخبارات أجنبية؟ وهكذا نتلقّى كرة النار، ونَنشغل مرة أخرى في وأد فتنةٍكان يمكننا تلافيها بدل غضّ الطرف عنها وترك الأمور حتى يستغلّها الآخرون.
في اختتام المقال، أجد نفسي أَقرب إلى السيد فضل الله، أكثر تفهّماً لطموحاته. منذ أشهر قليلة زرت مسجد الحسنين للصلاة، كان خالياً، نزلتُ إلى الطابق حيث ضريح السيد فضل الله. صليت وغادرت، التفتّ إليه، ابتسمت وقلت: لقد عاش كرجل استحقّ الحياة.
* باحث لبناني

محمد فضل الله