تقترب الهبّة الشعبية الفلسطينية من نهاية شهرها الأول من دون أن يتراجع زخمها، برغم تكثيف إسرائيل جهودها القمعية العسكرية والأمنية والقانونية.
وساهم تطور الهبّة الشعبية في اندفاع العديد من الجهات الدولية لإيجاد مخارج تحول دون استمرار الهبّة ولمنع تحولها إلى انتفاضة تفجر الواقع القائم، ليس فقط في الحرم القدسي وإنما في الأرض المحتلة بأسرها.
وبرغم ما حاولت جهات عدّة إظهاره وكأنه اتفاق تهدئة في الحرم القدسي بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية برعاية أميركية، إلا أن الهبّة تثبت أنها في الأصل ضد الاحتلال وممارساته.
ويوم أمس، تعددت عمليات الطعن التي نفذها فلسطينيون، سواء في غوش عتسيون أو القدس أو قرب أرييل، لتشهد على أن مساعي القمع لم تفلح لا في منع الفلسطينيين من مواصلة عملياتهم، ولا في ردعهم عن القيام بها. ولا يضير في هذه الحال التهديد بسحب الهوية الزرقاء أو الجنسية الإسرائيلية أو تشديد العقوبات على منفذي عمليات الطعن والدهس ورشق الحجارة أو الزجاجات الحارقة.
وفي الخليل تباهت سلطات الاحتلال بإحباطها عملية طعن حاولت صبية فلسطينية تنفيذها ضد أحد الجنود. وواصلت الصحافة الإسرائيلية الإشارة إلى الشبهات التي تدفع إسرائيليين الى استدعاء الشرطة أو ملاحقة مشبوهين يعتقد أنهم عرب في ظاهرة تدل على استمرار حالة الذعر.
وكانت الأنظار قد توجهت إلى اللقاءات التي عقدها وزير الخارجية الأميركي جون كيري مع كل من الملك الأردني عبد الله الثاني والرئيس الفلسطيني محمود عباس في العاصمة الأردنية. وجاءت هذه اللقاءات استكمالاً للقائه مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في برلين قبل أيام وبهدف تهدئة الوضع في الحرم القدسي والأراضي المحتلة.
وبدا للوهلة الأولى أن التسوية الأميركية التي لخصها كيري بعبارة الصلاة للمسلمين والزيارة للآخرين توفر سلّماً ينزل عليه الجميع عن شجرة الصدام. لكن من الواضح أن مثل هذه التسوية وأبطالها في واد والجمهور الفلسطيني في واد آخر.
ويعرف نتنياهو أن التسوية التي توصل إليها مع كيري، حتى وإن أثارت غضب بعض المتطرفين اليهود، فإنها لا تغير شيئاً من واقع ما كان. وربما لهذا السبب استغل جلسة الحكومة الأسبوعية أمس ليعلن في مستهلها أن «ترتيبات زيارة اليهود للحرم بقيت على حالها، ولم يطرأ عليها أي تغيير، وكذلك الحال مع صلاة المسلمين. لا تغيير في الوضع القائم. ولإسرائيل مصلحة في وضع كاميرات في كل أرجاء الحرم القدسي. أولا، من أجل صد المزاعم بأن إسرائيل تغير الوضع القائم. وثانيا، لكي تظهر من أين تأتي فعلاً الاستفزازات. وأيضا من أجل إحباطها قبل فوات الأوان». وأضاف نتنياهو: «سمعت الرد الإيجابي من وزير الخارجية الأردني على أقوالي أمس. وآمل أن هذا سيساعد في تهدئة الخواطر، على الأقل بشأن الحرم القدسي».
وكان بيان صادر عن رئاسة الحكومة الإسرائيلية قد أكد ليلة أمس الأول ما سبق أن أعلنه كيري من تعهد نتنياهو بعدم صلاة اليهود في الحرم القدسي.
وجاء في البيان الذي وُزّع على ممثلي الصحافة الأجنبية قبل توزيعه محلياً أنه «من منطلق الإقرار بأهمية الحرم القدسي لشعوب كل الديانات التوحيدية الثلاث ـ اليهود والمسلمين والمسيحيين - تعيد إسرائيل تأكيد التزامها بالحفاظ من دون تغيير على الوضع القائم في الحرم قولاً وفعلاً. وكما سبق وقلنا مراراً كثيرة، لا نية لدى إسرائيل لتقسيم الحرم ونحن نرفض كل محاولة ادعاء خلاف ذلك. إننا نحترم أهمية الدور الخاص للمملكة الأردنية الهاشمية كما تجلى في اتفاق السلام العام 1994 بين الأردن وإسرائيل والدور التاريخي للملك عبد الله الثاني. وستواصل إسرائيل فرض سياستها القديمة: المسلمون يصلّون في الحرم القدسي، وغير المسلمين يزورونه».
وكان إعلان كيري للخطوط العامة لتسوية الحرم القدسي قد أثار ردود فعل غاضبة من أوساط إسلامية فلسطينية. إذ رفضتها حركة حماس رفضاً مطلقاً كما أن الأوقاف الإسلامية أبدت شكّها في إمكانية تنفيذها نظراً للغموض الذي يحيط بها. فالمسألة في الواقع ليست مجرد إعلان عمّن يحق له الصلاة ومن يحق له الزيارة بقدر ما هي جهة إدارة الحرم وصاحبة القرار فيه. ومعروف أن الأوقاف الإسلامية كانت تدير الحرم وتحرس بواباته وهي من تسمح ومن تمنع الدخول إليه. وبقي هذا هو الحال إلى أن فرضت الشرطة الإسرائيلية نفسها وأبعدت الأوقاف تدريجياً عن إدارة الحرم. وفي الآونة الأخيرة تكررت اقتحامات الجيش والشرطة الإسرائيلية للحرم بدعوى وجود مرابطين ومرابطات فيه لمنع اليهود من الزيارة والصلاة. كما اتهم نتنياهو علناً المسلمين بتخزين أسلحة ومتفجرات في الحرم وهو ما لم يحدث أبداً.
كذلك فإن ما حاول كيري عرضه كإنجاز وهو قبول إسرائيل بنصب كاميرات في الحرم على مدار الساعة كان في نظر الأوقاف فخاً وقع فيه الأردن وربما السلطة الفلسطينية. وأكد مسؤولون في الأوقاف أن مسألة الكاميرات كانت مطروحة منذ وقت بعيد وكانوا يرفضونها لأن إسرائيل ستستغلها أمنياً في ملاحقة زوّار الحرم من المسلمين.
في كل حال لا يبدو أن نتنياهو قدم أي تنازل عندما وافق على مبدأ «الصلاة للمسلمين والزيارة لغيرهم» لأن أغلب الحاخامات اليهود يحرّمون جداً صلاة اليهود في أرض الحرم ويعتبرون ذلك دنساً لا يمكن التطهر منه. وليس صدفة أن حزب «شاس» كاد يخلق أزمة ائتلافية مع نتنياهو بسبب السماح لقوميين يهود و «متدينين» بالصلاة في الحرم. ومع ذلك، هناك متدينون قوميون كالذين في جناح «تكوما» في «البيت اليهودي» يرفضون فتاوى الحاخامات، ويؤيدون الصلاة في الحرم، بل السعي لهدم المساجد وإعادة بناء الهيكل.
ومع ذلك، فإن التفاهمات التي أعلنها كيري ستكون موضع مفاوضات بين إسرائيل والأوقاف الإسلامية في القدس. وليس مؤكداً ما ستسفر عنه هذه المفاوضات ولكن من المؤكد أنها لن تؤثر على الهبّة الشعبية. ففي نظر الكثير من الفلسطينيين، وبرغم أن شرارة الهبّة هي ما كان يحدث في الحرم من انتهاكات إسرائيلية، إلا أن المسألة في الأساس كانت ولا تزال بقاء الاحتلال.
ويؤمن خبراء كثر في فلسطين وإسرائيل بأن الهبّة لن تتوقف بسبب التسوية وأن على إسرائيل أن تحاول تحريك العملية السياسية مع الفلسطينيين. ولكن وضع نتنياهو الائتلافي يحول دون إمكانية تحقيق ذلك، ولهذا فإن أسباب انفجار الوضع أقوى حتى الآن من دوافع احتوائه.