إذا كان من الطبيعي أنّ الدولة اللبنانية الحبلى بالمشاكل المتراكمة والأزمات المتفاقمة منذ عشرات السنوات أن تلد بعد فترة مخاض عسير مولوداً جديداً إسمه الحراك الشعبي .

لكن من غير الطبيعي أنّ أقطاب السلطة الحاكمة وبعد مرور أكثر من شهرين على هذه الولادة التي شهدها العالم كله فإنهم حتى اللحظة يصرّون على الإمتناع عن الإعتراف بشرعية هذا المولود . وصحيح أنّ هذا الوليد لا زال في مرحلة الطفولة وأنّ حركته المطلبية لا زالت متعثرة بعض الشيء ويلزمه بعض الوقت والكثير من العناية الفائقة حتى يشتد ساعده ، إلاّ أنّ أحداً لا يستطيع أن يتجاهل هذا الإلتفاف الشعبي الواسع حول هذا الحراك ممّا يشكل له رافداً قوياً يجري على شكل سواقي وجداول من كافة المناطق اللبنانية بإتجاه ميدان الاحتجاج في وسط العاصمة بيروت الذي بدا كالبحر الهائج يموج بعشرات الآلاف من الناس المنتفضين على سوء إدارة هذه السلطة وفسادها .

وبالتالي يشكل له جهاز مناعة يحميه من الأوبئة والأمراض التي تحاول أجهزة السلطة أن تغرزها بشكل أبر مسمومة في جسمه الطري.

والحراك الشبابي الذي انطلق على شكل احتجاج على أزمة النفايات أخذ يتحول إلى حراك شعبي واسع انضم إليه الآلاف من المحتجين .

ومما لا شكّ فيه أنّ احتقاناً كبيراً جعل من احتجاج متواضع ينفتح على حراك مدني واسع ، وخصوصاً أنّ السلطات لم تعر اهتماماً لمطالب المحتجين ولا لأزمة خنقت العاصمة ومناطق عديدة أخرى بروائح جبال النفايات المتحللة في الساحات والشوارع في لهيب الصيف الحار .

الأمر الذي دفع بالحراك إلى توسيع مطالبه وإفاقه ليشمل إلى النفايات أزمة الكهرباء والمياه مروراً بالفساد المتغلغل في المؤسسات ونهب الأملاك العامة والمال العام وصولاً إلى شرعية الممسكين بمؤسسات السلطة الذين يستغلون المناصب لأغراضهم بما يتعارض ومصالح عموم المواطنين .

على أن ما يقلق السلطة الحاكمة ويشكل لها مصدر رعب حقيقي وهي تدركه جيداً هو أن انفضاض المواطنين وتسريبهم خارج الإصطفافات الطائفية والمذهبية التي صنعتها لهم ، ليتلاقوا في ساحات الإحتجاج يمثل التهديد الأكبر لسيطرتها حتى قبل أن يرتفع سقف الاحتجاج من المطلبي إلى السياسي .

من هنا كان الهجوم الشرس على الحراك حتى قبل أن يتشكل في أدوات تنظم قواه وتحدد مشروعه وبرنامجه لتكون هذه المواجهة إعلامية وسياسية وأمنية وايديولوجية ومن كل جانب وبمختلف أسلحة التشويش والتشويه لتصل إلى حدود التخويف والتهديد بانفجار الوضع الأمني والتهويل بانهيار الوضع الاقتصادي ، علماً أنّ الأمن لا يتهدد إلا على أيدي تلك القوى المسيطرة وما تمتلك من ميليشيات مسلحة وأدوات تخريب ، وأنّ الوضع الإقتصادي المتردي ليس إلا صناعة نفس الجهات المسيطرة وهو السبب الأهم لهذا الحراك .

فلم يعد خافياً أنّ هذا الحراك المطلبي وضع السلطة في موقف حرج ، فإمّا أن تلبي المطالب الأساسية والتي تلامس حاجات المواطن اليومية وإمّا مواجهة احتمال تطور الحراك وانتقاله من كونه حراكاً شعبياً إلى انقسام المجتمع اللبناني إلى طبقتين ، طبقة السلطة الحاكمة وطبقة الشعب المسحوق والمهدورة حقوقه وحريته وكرامته والتي تمثل غالبية المواطنين ، وهذا قد يكون مفتاح التغيير الشامل.

وعليه فالأجدى بالسلطة أن تعترف بشرعية هذا المولود وتلبي مطالب الناس للتخفيف من الامهم ومعاناتهم قبل أن تحترق بغليان الشارع الذي يزداد اشتعالاً يوماً بعد يوم وقبل فوات الأوان .