في مثل هذا اليوم إلتحق بالرفيق الأعلى صديقي الغالي السيد هاني فحص، في بيروت، صباح يوم الخميس 18 سبتمبر 2014..

كان هاني فحص مرآة كنت أرى فيها: المثقف، الأديب، الشاعر، الفنان، الناقد، المتمرّد خارج فلسفات العدمية والعبث، القلب الفوّار بعشق الإنسان، الثائر العابر للأيديولوجيات، رجل الدين العابر للأديان، الشيعي العابر للطوائف، المتصوف العابر للأديان، الإمام خارج المسجد، الخطيب خارج المنبر، المؤمن خارج المسجد، القدّيس خارج الصومعة، الراهب خارج الدير، المحاضر خارج الجامعة، المعلم خارج فصول المدرسة، المربي خارج المنزل. يجتمع تحت جبّته؛ محمد وعيسى، وفي قلبه؛ فاطمة الزهراء ومريم العذراء، وفي ضميره؛ الحسين الشهيد والمناضل جيفارا.. من دون أن تطرد شخصية أخرى أو تنفيها، ذلك أن رؤيته للعالم على الدوام أرحب من ضيق المعتقدات، وانطواء الآيديولوجيات، وكراهية التعصبات. إنه يتذوق كل ماهو جوهري في الأديان، ويبصر كل ما هو مضئ، ويتلذذ بكل ماهو رؤيوي، ويعشق كل ماهو جميل، من مزايا وخصائص وحالات الإنسان.

هو مرآتي التي رأيت فيها صورتي المفتقدة منذ مراهقتي حتى اليوم، ولم أكتشفها إلا في نماذج بشرية نادرة.

صحبته في مؤتمرات وندوات عديدة في لبنان وخارجها، كان يتدفق كالشلال، يفيض دفئا وتراحما وسلاما، وأدبا ومعرفة. يحمل هموم المهمشين، يتفجع لأوجاع المعذبين، يتحدث عن المحرومين وكأنهم أبناؤه، يفاجئ مستمعيه في التحدث عن تدين قلّما عايشوه، ودين قلّما تعرفوا عليه، يحكي عن إسلام قلّما نراه في حياة المسلمين، وعن تسامح في الأديان؛ تتنكر له حروب الأديان والطوائف اليوم وأمس. يدلّل على أن هذا الدين الذي يعتنقه، والايمان المشبعة به روحه، والتدين الذي يعيشه، هو ذاته دين وإيمان وتدين الناس في قريته، وعامة الناس الذين منهم أبواه، ممن يزدريهم بعض المتنطعين من رجال الدين؛ بوصفهم يخطئون في ضبط مخارج حروف الآيات، ويلحنون في تلاوة الأذكار والصلوات.

ذاكرته تحكي لنا أمثلة لعجائز من الأمهات وشيوخ من الآباء، ممن يعيشون تجاربهم الروحية الفطرية البريئة الحميمية، بعيدا عن ما سممتْ به فضاءَ التدين في مجتمعاتنا داعشُ وأمهاتها. قال لي يوما: انه طالما غمره شعاع النور المنبعث من أفئدة الفلاحات والفلاحين والعاملات والعمال، لكنه كان قلما يكتشف مثل ذلك النور في بيئة رجال الدين. أجبته بما قاله شاعر الفرس الكبير حافظ الشيرازي:

"در خرابات مغان نور خدا مي بينم"، بمعنى؛ أرى نور الله في حانات الكاهن المجوسي. ابتهج طربا، وهو يشدو بيت شعر حافظ، ثم كتبه على ورقة.

ظلّ هاني فحص كتابا ناطقا مفتوحا، ترسم حروفَه لوحاتٌ ألوانها مشرقة بالنور، ويجسّد خطواته سلوكٌ غريبٌ على رجال الكهنوت، يعزف قلبُه أنشودةَ الخير، وتشفُّ روحُه عن ترانيم تجربة العاشق الذي يسكره الوصال مع الحق.

لم يحكم بنجاسة شخص بشري، لم يكفّر أي فرد أو جماعة، كما هي مهنة بعض رجال الدين، ولم يقضِ بمآلات أصحاب المعتقدات المختلفة في اليوم الآخر، أو من يرفضون الأديان والمعتقدات كافة. كان إيمانه يتسع للجميع، إيمانه ينبع من ثقته العميقة برحمة الله، التي كتبها الله على نفسه. وهي رحمة يبخل بها المتحجرون التكفيريون، ممن يزعمون انهم يرتبطون بقرابة خاصة من الله، وهو الذي منحهم تفويضا مقدسا، بإخراج من يشاؤون من خلقه من فيوض رحمته، وتضييق ماهو واسع منها، حين تشحّ نفوسهم فتبخل برحمة الله، التي وسعت كل شئ، وكرمه الدائم الذي لا ينقطع ولا ينضب، الذي لم يختصه بأحد وأتاحه لكل الناس، فيما يزعم هؤلاء ان ذلك الكرم وتلك الرحمة مما استأثرهم الله فيها، وهي خاصتهم لا يشاركهم فيها مخلوق. طبع الله على قلوبهم، فلم تبصر كيف يهبُ الله الرحمة لأؤلئك الذين تساموا في مقامات السير اليه، فتصير طبيعتهم هي الرحمة، أي انهم أصبحوا هم من يمنح الرحمة، بدلا من ترقب ان يفيضها الله عليهم.

لم يكن السفرُ الى الله عند سيد هاني رهبنةً وعزلةً وهروبا من العالم، مثلما يهرب بعض المتصوفة والرهبان، ويستغرقون بحالة زهد وأوراد وأذكار، يغيبون معها عن العالم، ويعتزلون الحياة، بل كان السفر الى الله لديه، هو السفر والاستغراق في أوجاع الانسان وأحزانه وشقائه. كان قديسا لا كالقديسين، راهبا لا كالرهبان، مؤمنا لا كالمؤمنين، متدينا لا كالمتدينين، رجل دين لا كالحوزويين، معمما لا كالمعممين. دينه يسمح له بقبول كافة الأديان، إسلامه يسمح له بقبول جميع المسلمين، تشيّعه يسمح له بقبول كل المذاهب والفرق.

مشكلة هاني فحص خروجه على ثقافة القطيع، ورفضه لنفسية العبيد. كان يفكر وحده، يغرد وحده، يمشي وحده، لكنه لا يخوّن أحدا، لا يتهم أحدا، ولا يحارب أحدا. جسور في مواطن يتغيب فيها معظم أهل الرأي في الدين والدنيا. يقول علانية ما يقوله غيره في السر.

لا يكف عن حكاية آلام المغلوبين في الماضي، وأوجاع البؤساء في الحاضر. لا يكرر صورا تاريخية متخيلة للمعتقدات والجماعات، كما يفعل معظم زملاؤه رجال الدين؛ بل يحرص على البوح بالمسكوت عنه في ذلك التاريخ، فهو لا يني يفضح اضطهاد الرقيق والأماء وغيرهم في التاريخ، ولا يتردد في الحديث عن انتهاكات كرامة الكائن البشري في الماضي والحاضر.لم أره يوما في موقف، ولم أقرأ له نصا، لم أجده فيه منحازا للانسان كإنسان، قبل أي تصنيف أثني أو ديني أو طائفي.

رأيت فيه مالم أره في الكثير من زملائي في حلقات الدرس الحوزوي، أفق ايمانه لا تنهكه الأسوار، ولا تغلقه السجون، بصيرته تمنحه قدرة على قراءة الأسرار المخطوطة على أفئدة العشاق المتيمين في موكب العشق الالهي.

كلانا سيد هاني وأنا درسنا في حوزة النجف، لكنه سبقني بعقدين، اذ انخرط في الحوزة بداية الستينيات من القرن الماضي، وغادر الى لبنان مطلع السبعينيات، فيما التحقت أنا في حوزة النجف عام 1978، كما سبقني في أنه كان أحد رواد حركة تنويرية، تضم الصديق العلامة السيد محمد حسن الأمين وغيره في النجف، مثّلت بؤرة ضوء في الحوزة، واستطاعت أن تتواصل بحيوية من جيل الستينات الأدبي في العراق، والمثقفين العرب في مصر ولبنان، عبر الدوريات الثقافية والأدبية. وهي طيف شعاع تنوير لبناني، انبثق في حوزة النجف قبل مائة عام تقريبا، ووجد نموذجه المتطور مع هذه الجماعة.

في غياب سيد هاني من سيكون؛ سفير الشيعة للعالم في زمن الانكفاء، سفير الشيعة للسلام في عصر حروب الطوائف، سفير الشيعة للسنة في عصر التوحش والتكفير؟!

لم أرَ سيد هاني يترفع عن الحضور والمساهمة في مختلف أنواع المنتديات والفعاليات والمواقف المجتمعية؛ الدينية والثقافية والأدبية والسياسية، مهما كان نمط ومعتقد جمهورها، شريطة أن تنتمي لهموم الوطن والانسان، مثلما هي همومه على الدوام.

   خسارة عالمنا الشقي لسيد هاني فحص لا تعوض، ذلك أنه؛ المثقف المتنوع، رجل التسامح والحوار، عاشق الإنسان، المتمرد على كهوف الماضي المظلمة، المصباح في ليل الحاضر الطويل، الحالم بإنسان يتخطى أقفاص الهويات وزنزانات الطوائف، في عصر أمسى فيه من يراجع أو ينتقد أخطاء وخطايا طائفته يغامر بفقدان هويته.  

فقدت أخا نبيلا غيورا على الانسان والأوطان والايمان وجوهر الأديان، وسأبقى وفيّا لقيمه وإيمانه وكدحه المتواصل، من أجل؛ الحق، العدل، الخير، الفضيلة، والجمال. وأعاهده؛ ان ماضيه لن يمضي من ذاكرتي وحياتي أبدا.

 

د. عبدالجبار الرفاعي