في شباط الفائت كاد تطبيق فصل من فصول الخطة الامنية، المتعلق بازالة الشعارات الحزبية والسياسية من الشوارع ان يعيد طرابلس الى بؤرة التوتر، وربما الاقتتال. من بين ما اريد ازالته، او استبداله يومها، هو مجسم اسم الجلالة “الله” من ساحة عبد الحميد كرامي، التي صارت ساحة الله منذ ان فجرت مطلع ثمانينيات القرن الماضي، عبوة ناسفة تمثال الزعيم الشمالي، واستبدلته حركة التوحيد الاسلامية بنصب الجلالة عام 1984. 

كان النصب يعلن عن تحولات عميقة في الاجتماع المديني لطرابلس ويمثل محاولة لتغليب الهوية الاسلامية عليها، وتأبيد الصعود الاسلامي على حساب هويات سياسية أخرى، مثّل آل كرامي وجهاً بارزاً من وجوهها. 

بهذا المعنى ارتبط نصب الجلالة بهوية المدينة او بهوية للمدينة على نحو أدق. وصار الاحتجاج على ازالته ينطوي على مضمون صراعي ودفاعي عن هذه الهوية، بمثل ما كان الامر يوم التنصيب وأشد. قبل أكثر من عقدين كانت الهوية التي ينوب عنها النصب ويمثلها، محصورة في طرابلس، أما اليوم فهذه الهوية الاسلامية السنية تنفجر بتعبيرات كثيرة في عموم المنطقة، وبكل الوان الطيف الاسلامي من الاخوان الى النصرة وداعش والقاعدة والسلفيين والمعتدلين وغيرهم!! 

غلبة الديني على السياسي ليست صفة حصرية للسنّة اليوم، او لشرائح كبيرة في مجتمع الطائفة. هي نتيجة منطقية للإصطدام المتنامي مع خصوم، لا سيما حزب الله وايران، أبكروا في تلبس هوية مذهبية، وتغليب هيئة الدين على السياسة. 

لم تدم طويلاً حفلة التكاذب بين السنة والشيعة في لبنان. ولم تسعف الالتباسات التي احاط بها حزب الله مشروعه ولغته وهويته، أكانت المقاومة أو الوحدة الاسلامية، في منع الانكشاف المذهبي حين حانت لحظة التصادم. بسرعة غادر الحزب لغة الحذر ولعبة الاقنعة. ذهب مباشرة الى جنون اللغة التي لا تستثير الا جنون المدافعين عن ساحة الله في طرابلس، هم الذين كانت التباسات زمن السلم الاهلي البارد تعطل قدرتهم على التعبير عن أنفسهم ومشروعهم و”حقوقهم” المادية والمعنوية!

دخل حزب الله في الحرب السورية مدافعاً عن لبنانيين، يقيمون على الحدود بين لبنان سوريا. لم تدم هذه النكتة طويلاً. سرعان ما صار الحديث عن المقامات والغيب وزينب التي لن تسبى مرتين، والثبات في صفين، والشيعة الذين لن يقبلوا بأن يهيموا في الارض، يُقتل رجالهم وتُسبى نساؤهم، وغيرها من كوابيس حروب المذاهب!!

لم يوحِ شيء أن السنة والشيعة عازمون، او قادرون، على كبح الانزلاق نحو استئناف حروب يتجاوز عمرها ١٤٠٠ عام، يخوضونها عبر اغتصاب الحيز العام أكان ساحة ام وطناً ام حدوداً، وعبر تديين شامل للسياسة واغراقها في لغة الغيب.

لم يكن ينقص هذا المشهد التصحري للسياسة الا إعلان المسيحيين انتسابهم لحفلة جنون المذاهب والطوائف الاسلامية. بل إن التحاقهم المريع بهذا المشهد كان محل ترحيب من المتكاذبين السنة والشيعة، في الاعلام والتصريحات السياسية التي رحبت بمشهد دخول تمثال سيدة فاطيما الى البرلمان اللبناني، بعد جولات رافقتها منذ وصولها الى المطار وحتى حين مغادرتها.

الامر لا علاقة له هنا بمناقشة المؤمنين في إيمانهم. فليأتوا بكل تماثيل السيدة مريم من كل أصقاع الكون، وليتعبدوا ويبخروا ويغنوا ويرقصوا بما يمليه عليهم ايمانهم ووجدانهم. هذا شأن المؤمنين لا شأن هذه المقالة او كاتب سطورها. أما إدخال التمثال الى البرلمان في مشهدية بائسة، يتقدمها نواب لا يحضرون جلسات إنتخاب رئيس الجمهورية، ويملؤون الفضاء الاعلامي والسياسي بأعلى درجات الاسفاف المذهبي، والضحوية المزيفة، ثم يتوسلون السيدة العذراء أن تنقذ استحقاقهم الدستوري، فهو تعبير مقذع عن هستيريا جماعية غير مسبوقة في تاريخ البلد. هستيريا شارك فيها من نظم زيارة المجلس ومن رافقها ومن أجازها ومن سكت عنها بحجة المجاملات المذهبية العفنة. 

ولئن كانت هذه المشهدية، تعبر ضمناً عن خوف المسيحيين المشروع على دورهم ومكانتهم في لبنان، فإن المخيف ان هذا الخوف لا ترافقه صحوة سياسية واجتماعية مسيحية جادة لكيفية الذود عن الدور والمكانة، بغير لغة الغيب والابتهال. 

ملاقاة المسيحيين للسنة والشيعة في حفلة جنونهم هي الوجه الاخر لإنتهازية القوى السياسية المسيحية التي انتقلت من التمترس خلف السنة والشيعة الى الانفصال السياسي عنهم، بأوراق نوايا وتفاهم باهتة، والانفصال عن حروبهم، وحصر المشتركات معهم في نبش تاريخ المقدسات والغيبيات. 

هللويا.