"مما لا شكّ به أن للصدقة  أجرٌ لا يستهان به (إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ / التغابن 17 )، لذلك يعمد المسلمون على إتيانها على أبواب شهر رمضان ، نظراً لما يحمله هذا الشهر من فضيلة و من خصوصية دينية ...

ولكن للأسف يتم النسيان أو التناسي أن للصدقات شروطها ، المذكورة في الأحاديث وفي القرآن الكريم ، ومن أهم هذه الشروط السرية ، وعدم التباهي ، وإبتغاء مرضاة الله  ...

غير أنّ ما يجري للأسف هو رياء بأغلبه ، فالصدقات تؤتى بأسلوب علني "ومع تربيح ألف جميلة " ، ولا يتوقف الأمر عند الإشهار بل الوسيلة التي تعتمد هي الأكثر سوءاً حيث يتم تعريض الفقير لنوع من الإذلال عبر وقوفه في "طابور" لا ينتهي ، حتى يمن عليه صاحب الإعاشة بعلبة مهما غلا ما بها فهو لا يستحق إهانة كرامات الناس .

وهؤلاء يبدو (وهم الأغلبية) الذين يجاهرون بما تعطي أيديهم ، لم يمرّوا على الآيات القرآنية القائلة :

" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى " (البقرة الآية:264).

ولم يعتبروا بحديث النبي القائل :

" سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله الإمام العادل وشاب نشأ بعبادة الله  ...... ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله "

 

كما يبدو أن هؤلاء قد استرسلوا في التعالي والتغالي ، حتى غاب عنهم القيمة الدينية العظيمة التي تنطوي عليها الصدقة الحقّة ، والشواهد الدينية على ذلك كثر :

منها قول الرسول عليه الصلاة والسلام : " ..... فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة ، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم "

ومنهم الآيات القرآنية :

وقال تعالى : { آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ } الحديد / 7

 

 

غير أنّ الفقراء ، قد ملوا من الحملات الدعائية التي تروج بها المؤسسات لنفسها أو الأشخاص لمناصبهم ، ففضلوا كفر الجوع ولا كفر الكرامة ...

أم أحمد ( الإسم مستعار طبعاً ) ، أرملة لا معيل لها ، فأبنائها قد تزوجوا وهي تحيا على القليل ، إلا أنها ترفض أن تقبل "كارت إعاشة " .

أما السبب فتقول (  الفقر يا بنتي منو عيب العيب هو الذل الله غانيني باكل خبزة يابسة ولا بنذل كرمال كرتونة ) .

 

أبو إبراهيم ، رجل ستيني ، يسكن في الحواري العتيقة مطبخه فارغ إلا من الفتات غير أنه لا يقبل صدقة من أحد ، ويقول ( عايش علي بطلعه ، بطلع ألف باكل بألف ، بطلع عشرة باكل بعشرة وحامدين الله )

وعن سؤاله لماذا يرفض المعونة ، يعلق ( الي بده يساعد ما ببين قدام الناس الي بيساعد بينطر الليل وما ببين حالو )

 

وعلى خلاف أم أحمد وأبو عماد ، كثر يقبلونها "بغصة" ، فالحاجة (بتكسر الضهر) ، هكذا يقول "معين" ، ويشدد "ذلونا بهاللقمة وما عم نعرف نبلعا " ...

 

للأسف هذا هو واقع الإعاشات بأغلبه ، وحتى مساجدنا باتت وكالات علنية للمتاجر بالصدقة ، فماذا نقول :

إن كانت بيوت الله إستهترت بتعاليمه ، فماذا نتوقع أصلاً من الذين لا يعرفون الله إلا بمناسباته الدينية ؟

 

والأمر لم يتوقف عند أسلوب "التهاون بالفقراء" بل تعداه لسرقتهم ، فما يوزع وبالأخص في المؤسسات الدينية والإجتماعية لا يتعدى النسبة القليلة من المرسل للفقراء ، حيث أن هؤلاء لا يوزعون المعونات من جيوبهم الشخصية ، بل من التبرعات التي يأتمنهم عليها أصحاب المال من المتصدقين ، ولو علم هؤلاء ما يصل للفقير وبأي وسيلة ...

لإستغفروا الرب ولفضلوا إتيانها هم ، وليس عبر وكالات تأكل من لحم الفقير وتتاجر بعظمه !

 

فعدنان وهو مغترب ، يقول لموقع لبنان الجديد كنت أرسل مبلغاً من المال كل سنة لأحد "المشايخ" على أمل أن يوزعهم على الفقراء ، كونه يعلم من هم فعلاً بحاجة ، وكنت أشدد عليه عدم ذكر المصدر ( ما بحب حدا يعرف اني بتصدق) ،  غير أنه قد نبهني أحد المقربين إليه منذ فترة أن ما يوزع هو فقط نصف ما أرسل الأمر الذي دفعني هذا العام لأن أوكل أحد من أقربائي بهذه المهمة ..

 

وعدنان هو نموذج من كثير من المغتربين اللبنانيين الذي يتصدقون على فقراء بلادهم ، ولا تصل صدقاتهم كاملة ...

 

قضية الصدقة ، وأشدد على كلمة "قضية" ، لأنه لا يوجد أهم من التكافل الإجتماعي ، ومن الشعور بالآخر ، ومن التعامل مع الفقراء من مبدأ المساواة بالحق ، ومن منطلق أن ما نتصدق به هو مال الله ( فهو الذي رزقنا) وليس مالنا نحن ...

ولا بد من التشديد هنا أيضاً ، على ضرورة التكتم خلال أدائها وعدم المس بكرامة المحتاج ، فسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، كان يتنكر ليتفقد أحوال الرعية ، وإن وجد بينهم فقير عاتب نفسه وخاف عقاب الله ، وعمل على برّه دون أن يعرف الفقير أن "المجهول البار" هو أمير المؤمنين ...

وكذلك الإمام زين العابدين كان يضع الصدقات أمام أبواب الفقراء ثم يذهب ، فلا يعرف الفقير هوية من تصدق عليه  ومن تفقد شؤونه ...

 

فإن كانت رموزنا الدينية قد كرمت الفقير فبأي حق نهينه نحن ؟؟