في العقود الثلاثة الماضية، حين كان الموضوع المركزيّ في السجال السياسيّ اللبنانيّ مسألة مقاومة إسرائيل، أسهم حزب الله في تقديم عدد من الحجج حول عدم صلاح الجيش اللبنانيّ لدور كهذا، وأنّه كطرف نظاميّ وكلاسيكيّ لن يفعل بذلك سوى تدمير نفسه.

 

كانت هذه الحجج تتدافع بشتّى الأشكال والطرق ردّاً على المطالبين بنزع سلاح الحزب وبضرورة امتلاك الجيش وحده لوسائل العنف والدفاع عن الوطن.

 

واليوم، فيما تتحوّل مسألة المخاطر التكفيريّة التي تطلّ من وراء الحدود إلى مسألة متصدّرة، تلقى المطالبة باحتكار الجيش أدوات العنف الإجابة نفسها من حزب الله، وإن على نحو ضمنيّ ومداور. والإجابة، أيضاً وأيضاً، مفادها أنّ الجيش ليس الطرف المؤهّل لأن يتصدّى لهذا الخطر، أتعدّى الحدود أم لم يتعدّها بعد.

 

بطبيعة الحال فإنّ الرواية هذه لا يفوتها التوكيد على إلحاق الجيش بمعركة حزب الله المفترضة مع التكفيريّين، بل الضغط على الحكم اللبنانيّ لحمله على تبنّي ذاك الإلحاق واعتماده.

 

فإذا جمعنا تلك المواقف في حزمة واحدة تبدّت لنا خطّة حزب الله مؤلّفة من نقطتين متكاملتين:

 

الأولى، أنّ الجيش اللبنانيّ ليس صالحاً كقوّة دفاع عن الوطن، لا في مواجهة إسرائيل وجيشها النظاميّ، ولا في مواجهة التكفيريّين، ولا في مواجهة أيّ كان. وهذا ما يجعل كلّ خطر جديد، حقيقيّ أو مضخّم، وبغضّ النظر عن اختلاف طبيعته عن طبيعة الخطر السابق، سبباً إضافيّاً لاحتفاظ حزب الله بسلاحه إلى ما شاء الله.

 

والثانية، أنّ هذا الجيش يبقى مطلوباً بوصفه قوّة دعم وإسناد للحزب الذي يتكرّم عليه بتبرير بقائه على قيد الحياة. ذاك أنّ رواية الحزب عن نفسه بوصفه الطرف الوحيد المؤهّل لحمايتنا، من إسرائيل كما من التكفير، تلغي الحاجة إلى الجيش إلاّ في حدود ما يتصدّقه الحزب عليه.

 

وغنيّ عن القول إنّنا هنا حيال قلب للعلاقة المعروفة بين الجيوش والميليشيات، بحيث تغدو الأولى طرفاً داعماً أو مسانداً، ومجرّد لحظة في الخطّة الاستراتيجيّة التي تضعها الثانية.

 

ولا شكّ أنّ الحزب يجد من الحجج ما يؤكّد وجهة نظره. فالحالة البائسة للجيش العراقي حيال "داعش" من جهة، وحيال "الحشد الشعبيّ" من جهة أخرى، تقود إلى تغليب الميليشيات على الجيوش.

 

ولهذا تتكاثر اليوم في بيئة حزب الله دعوات الداعين إلى تعميم ظاهرة "الحشد الشعبيّ" عربيّاً. أمّا قوّة الحوثيّين في اليمن فتحضّ أيضاً على توكيد الفرضيّة نفسها. ومن دون أن يصرّح الحزب بهذا، فإنّ شعوراً بالزهو يتملّكه حين يرى إلى نفسه منقذاً للجيش السوريّ في عدد من المعارك والمواجهات ضدّ خصومهما.

 

وفي هذا المعنى فإنّ تاريخ المهانة هو ما يفسّر أيلولة الجيوش السوريّة والعراقيّة واليمنيّة إلى انحطاطها الراهن. وهذا ما يُراد تطبيقه على الجيش اللبنانيّ الذي كانت قوّة حزب الله، ولا تزال، العلامة الأبرز على تعريضه لمهانة مماثلة.

 

وعلى هذا النحو لا يبقى لنا، في هذه الرقعة من العالم، سوى أن نهتف: عاشت الميليشيا!

 

المصدر: ناو