لا تزال الولايات المتحدة مهتمة بأزمة أوكرانيا وتأثيرها على أوروبا، وبتحدّي "قيصر" روسيا فلاديمير بوتين لها، وبعمل الصين الدؤوب، أولاً لتثبيت حضورها ودورها في منطقتها الحيوية، وثانياً لاستحقاق مرتبة الشراكة في إدارة العالم مع أميركا. لكن اهتمامها الأكبر في هذه المرحلة كما عشته في زيارتي السنوية لها، ومن خلال متابعتي إعلامها المتفوِّق ولقاءاتي الكثيرة في واشنطن ونيويورك مع مسؤولين حاليين في "إدارتها" المتنوعة ومع مسؤولين سابقين كبار فيها وديبلوماسيين متقاعدين وعاملين في مراكز أبحاث مهمة ومسؤولين كبار في منظمات يهودية فاعل تأثيرها أميركياً وديبلوماسيين عرب وشرق أوسطيين، من خلال هذه المتابعة لاحظت أن الشرق الأوسط وخصوصاً بشقيه العربي المسلم والمسلم غير العربي وبالشقّين السني والشيعي فيه يشغل رئيسها باراك أوباما وإدارته 24 على 24، وذلك بعد اشتعال دول عدة فيه منذ سنوات وانتقال النار إلى دول عدة واحتمال انتشارها في دول أخرى. وبعدما تسبب ذلك بحسب اقتناع كثيرين في العالم ببدء إنهيار النظام الاقليمي الشرق الأوسطي الذي وضعته بريطانيا وفرنسا بعد الحرب العالمية الأولى. ويعني ذلك أن قيام النظام البديل منه ينتظر استكمال انهياره، والاستكمال يعني أن الحروب المشتعلة ستبقى متأججة وقد تطال دولاً أخرى. ولاحظت أيضاً أن الأولوية في الشرق الأوسط التي تستأثر باهتمام الولايات المتحدة وانشغالها وجهدها كانت للمفاوضات مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية حول ملفها النووي وانعكاس انتهائها إلى اتفاق - إطار على التحالف الإستراتيجي المزمن بينها وبين إسرائيل ومع حلفائها الأبرز من الدول المسلمة العربية وغير العربية.
ما هي أكثر الأمور التي لفتت النظر وربما أثارت الأسف في اثناء زيارتي الأخيرة لواشنطن ونيويورك؟
الأمر الأول كان عودة بعض ملامح العنصرية في أميركا بين البيض والسود، وذلك بعد نجاح القضاء على معظم ملامحها وممارساتها بالقانون والمساواة والعدل والاعتدال. ولا يعني ذلك أن الحرب العنصرية عائدة إلى الشوارع الأميركية، بل يعني أن العودة المحتملة لبعض مظاهرها ستُواجه بالقانون وبتعميق المساواة وترسيخ العدل والاعتدال. كما يعني أن العودة المشار إليها ما كانت لتحصل لولا أمران. الأول، عدم تحمُّل متطرفي الحزب الجمهوري الذين يكادون أن يسيطروا عليه وصول أسود إلى رئاسة الجمهورية. والثاني، عدم تقبُّلهم كون والده مسلماً رغم أنه مسيحي إيماناً وممارسة. وزاد الطين بلّة كما يقال تصدِّيه لمعالجة مشاكل اجتماعية وصحية واقتصادية على نحو لا يحتمله الفكر الجمهوري المحافظ.
والأمر الثاني، هو تأكيد مقولة معروفة من زمان هي أن كل السياسات في أميركا محلية (All Politics are Domestic). فغالبية أعضاء الكونغرس بمجلسيه تهتم أولاً بالقضايا الداخلية على تنوعها. أما القضايا الخارجية فاهتمامها بها وطريقته يرتبطان بأمرين. الأول، تأثيرها السلبي على أميركا وعدم تحبيذ الانخراط فيها بقوة (عسكرياً مثلاً) إلا عند الضرورة القصوى. والثاني بمدى تأثير هذه القضايا على إسرائيل التي تمتلك "دالّية" على الكونغرس ليس فقط بسبب التحالف الإستراتيجي المزمن بين الدولتين، بل أيضاً بسبب قدرة اللوبي اليهودي الأميركي على مساعدة هؤلاء في إعادة انتخابهم وحتى في الانتخابات الرئاسية جراء إمكاناته المالية وقدرته على جمع التبرُّعات لهم.
والأمر الثالث، هو دخول عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين مرحلة الموت السريري رغم اعتقاد البعض أن الرئيس أوباما سيبادر في مرحلة معينة إلى طرح حل الدولتين على مجلس الأمن، ولاسيما في ظل احتدام الخلاف بينه وبين رئيس وزراء إسرائيل نتنياهو وعدم استعداده للتنازل له أو الخضوع له.
الأمر الرابع، هو تحسُّن الوضع الاقتصادي بعد الأزمة الاقتصادية التي ورثها أوباما عن سلفه جورج بوش الابن، ونجاح أميركا في تحقيق اكتفاء ذاتي بالنفط، واستمرار تصدُّرها بأشواط العالم الأول في الأبحاث والاقتراحات والاكتشافات.
طبعاً لا تكفي مقالة تمهيدية لاختصار خمسة أسابيع من الاجتماعات والبحث والحوار والمناقشة. لذلك أبدأ اعتباراً من يوم غد نشر سلسلة "مواقف" ساعياً من خلالها لإشراك اللبنانيين في معرفة ما يدور في واشنطن بعدما صاروا أسرى "بروباغنداها" وحلفائها كما بروباغندا أعدائها.