إيرانية كانت أو غير إيرانية، جماعة «أنصار الله» الحوثية لم تعد تكتفي بالسيطرة على الهضبة اليمنية من صعدة حتى صنعاء ذات الغلبة المذهبية الزيدية، وأخذت تستولي على مناطق ذات غلبة مذهبية شافعية وصولاً الى تعز، وهذا معطى أخطر بكثير من واقعة سيطرة هذه الجماعة على العاصمة اليمنية نفسها، لأن البلد الذي لعب العامل المذهبي دوراً أساسياً في انقساماته، كان يتفاعل مع جملة عوامل أخرى في ما مضى، في حين أنه اليوم، وبالمقويات التوجيهية والتجهيزية الإيرانية يراد تحويله ليس فقط الى عنصر الفرز الأساسي بين اليمنيين بل الى عنصر غلبة بعضهم على بعض. الحوثية التي تعمل على إعادة إنتاج الانتماء المذهبي الزيدي على نحو مهدوي وأيديولوجي يحاكي المتواتر من إيران، تبتغي في الوقت نفسه فرض سيطرة أهل مذهب على آخر، متجاوزة النسبة الديموغرافية التي تعطي رجحاناً للشوافع على الزيديين، ومغامرة في الوقت نفسه بالثقل العددي لليمن ككل، كما حال المغامرة المذهبية بالثقل العددي للعراق، حيث إننا نرى في البلدين، كيف أمكن للسياسة الإيرانية، وليس فقط الإيرانية، بل للجماعات الأهلية المسلحة المستعينة أو المستوحية من هذه السياسة، أن تطلق العنان لنزعات استيلاء وغلبة، تفضي لا الى الهيمنة على الكيان، بل الى تبديده، ولا الى إنشاء امبراطورية إيرانية مزعومة، بل الى المزيد من تبعية هذا الشرق العربي لآليات التحكم والابتزاز التي تتداولها الدول الكبرى. فمن يصل به هذيانه حد توهم أن ما يجري إن في العراق أو في اليمن هو «نهضة» أو «صحوة»، يجيبه الواقع بأن هذين البلدين، والمنطقة الممتدة حولهما، قد تآكلت فيها بشكل غير مسبوق المعالم الكيانية والتحررية الوطنية. 

يراهن الحوثيون على إفراز واقع يجعل شمال البلاد حتى تعز في أيديهم، ويطلق يد الحركات الجهادية، «القاعدة ومشتقاتها» في جنوب البلاد، بحيث يصير الحوثيون من «عصبة مكافحة الإرهاب الأممية» التي تخطب ودّها الولايات المتحدة الأميركية، وبحيث يؤمّن هذا الواقع في سنوات قليلة انقلاب التوازنات المذهبية - الديموغرافية والسياسية جنوب غربي الجزيرة العربية. وهذا، بشكل عام، هو رهان أنصار إيران في العراق أيضاً، على أن يكون القسم العربي السني فيه في يد الجماعات الجهادية، فتصير طائفة «إرهابية» والأخرى «مكافحة للإرهاب». النظام الديموقراطي الليبرالي - الحقوق إنساني في سوريا بقيادة بشار الأسد لم يقل غير ذلك أيضاً. وطبعاً، لإيران تجربة في تحويل أهل بلوشستان فيها إلى «إرهابيين» تعمل على مكافحتهم. المثال البلوشي يراد له أن يعمم. في بلوشستان يحاسب كل الشعب على أفعال «جند الله»، وفي اليمن تطلق يد «أنصار الله»، ومن غير شرّ في الآونة الأخيرة أخذ أهل النظام السوري يتسمون هم أيضاً على فضائياتهم بـ»رجال الله». 

هذا المنطق لا يجد من يعترضه بشكل جدي، وحيوي، وهنا الخطورة. من جهة، الحركات الجهادية «تقع في المصيدة» التي ينصبها لها أنصار إيران والنظام السوري. تسلّط على المناطق السنية فيتردّد الغرب قليلاً ثم يبدأ فيه التأثر بالاقتباس والتعميم الإيرانيين لثنائية «إرهاب ومكافحة إرهاب»، من دون أي شعور بفداحة تحويل الحوثيين والأسديين وخلافهم الى «مكافحي إرهاب». 

ومن جهة ثانية، المنظومات الحكومية عبر المنطقة العربية، وهذه أيضاً تكبّل نفسها بنفسها، وتخفي من وراء أفعالها المرتجلة حيرة داخلية، إذ تشعر بأنها محاصرة بين مجاهدي إيران من جهة، والجهاديين في الوقت نفسه. 

ومن جهة ثالثة، الغرب الذي راقت له ثورات الربيع العربي يوم بدت تشبه «الثورات المخملية» في أوروبا الشرقية، فما كان منه إلا أن عدّل النظرة أول ما سالت الدماء، وعمّم الموقف الإسلاموفوبي، بأنّ عادة أن يتقاتلوا بين بعضهم البعض هكذا، والمهم الاحتماء منهم. 

كل هذا، يجعل التخريب الحوثي نموذجاً ليس من يصدّه؛ لكنه في الوقت نفسه، كما حال مرادفاته في العراق او في سوريا، تخريب عبثاً يتجاوز الواقع الداخلي اليمني نفسه، او السوري او العراقي. وهذا الواقع معادلته الأساسية بسيطة، بسيطة جداً، لكنها تنتج مضاداتها الحيوية: بالإمكان تبديل الأحجام الديموغرافية الإثنية والمذهبية وانتشارها الجغرافي، لكن لا يمكن إفراز واقع مثالي مستقر لسيطرة الجماعات المسلّحة الموالية لإيران. التوازن الكارثي سيبقى سيد الموقف إذاً، بأشكاله التناحرية، إن في العراق أو في سوريا أو في اليمن، وبشكله «المحتبس»، كما في لبنان.