يأتي لقاء بكركي والبنود التي خرج بها، والأجواء التي تخللته، كمؤشر له دلالاته التي لا يمكن طمسها أو إغفالها. عندما يضع هذا اللقاء نفسه، بمبادرة من البطريرك الماروني تحت عنوان من قبيل «ما يجب القيام به لدرء المخاطر وطمأنة جميع اللبنانيين» فهذا يعني اننا امام اول جردة، لسمات الأزمة الراهنة، ضمن إطار يشمل المروحة الأوسع من القوى ذات التمثيل البرلماني المسيحي، هذا على الرغم من الحذر المتبادل الذي لا يزال يُلازم تفاعل هذه القوى مع بعضها البعض، ويحرمها من تشخيص «اكثر تسييساً» ومباشرة لطبيعة الازمة الحالية، والطرق الأفضل للخروج منها في الاقتصاد وفي السياسة.

ليس بتفصيل ابداً، ولا هو مفترض، بزخرفة بلاغية، ان يشدد اللقاء على انه «ليس لأحد ان يصنع هوية جديدة مغايرة لحقيقته» وأن يقترن هذا بـ «حسن ادارة التعددية على اساس الشراكة الوطنية العادلة والمحقة والمتوازنة» ناهيك عن التمسك «باحترام الدستور وسيادة الدولة ورفض كل ما من شأنه المسّ بتوازن المؤسسات الدستورية وصلاحيات كل منها وفي مقدمتها رئاسة الجمهورية بما هي رئاسة للدولة ورمز لوحدة الوطن». نحن امام بيان هو الاول من نوعه منذ فترة، ينبثق من موقع اجتماع حيثيات ذات تمثيل في الصرح البطريركي، ويستخدم اسلوباً واضح الاشارة الى ان اساس المشكلة الحالية عدم التقيد بأحكام الدستور، وتشويه مقومات التعددية في البلد. صحيح انه كان يلزم التزام منهجي شامل بالدستور من كل الاطراف، اقله منذ نهاية الانتخابات الاخيرة، وأن «نقداً ذاتياً» يبقى نافعاً بالنسبة الى القوى التي جرّبت «التعطيل الصغير» فأتاها «التعطيل اللامحدود»، بما دفع بأزمة تشكيل حكومة لتصير بعد كل هذه الاشهر بالفعل ازمة خروج طافح عن الدستور، بل عن ألفباء القانون الدستوري نفسه، وبما يجعل من ازمة الخروج على الدستور بهذا التمدد الزمني، ازمة شاملة، مع كل الفاتورة الاقتصادية والمالية الحرجة، وبهذا الافق الذي يزداد انسداداً للعدد الأكبر من الناس في البلد، وبهذا الشقاق الذي يزداد حفراً وخطورة بين العدد الأكبر من الناس وبين المستويات المختلفة من عدم الشعور بالمسؤولية الاجتماعية، والكيانية.

يأتي هذا اللقاء كمحاولة لوضع القوى والكتل المسيحية امام مسؤولية صياغة اجماع ضاغط، وعدم الاستسلام للتعطيل والغرق في المناكفات. يدعو البيان الى «الاسراع بتشكيل حكومة وفق الدستور وآلياته تكون منتجة وتشكل حافزاً لدى المجتمع الدولي لمساندة لبنان. والتعاون مع فخامة رئيس الجمهورية ودولة الرئيس المكلّف اللذين اناط بهما الدستور عملية التأليف حتى لا يبقى لبنان عرضة للأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية». ليست هذه هي الدعوة الاولى من هذا القبيل، لكن نجاح بكركي في العودة مجدداً الى المكان الذي يوحد تلاوين مختلفة تحت هذا النمط من الكلام فيه، بكل تقدير، ايجابية تنبغي ملاقاتها، والبحث عن حركة ضاغطة جديدة، متعددة الاشكال والمواقع، من اجل الاسراع بالتشكيل الحكومي، وبما يراعي احكام الدستور.

يدعو البيان الى «احترام الصلاحيات المناطة بمسؤولي الدولة والتعاون المتكافىء بين السلطات الثلاث»، وربما كان الافضل ايراد مبدأ الفصل بين السلطات بالحرف، هذا المبدأ الذي صار مغيباً بشكل مخيف في البلد، بالشكل الذي الغى فيه جانباً غير قليل من سمته كديموقراطية برلمانية، ليس لصالح سلطة دستورية في مقابل السلطتين الأخريين، بل لصالح ما من شأنه تعطيل وتجويف ومحاصرة كل واحدة من هذه السلطات، وترجيح كفة منطق الغلبة واختبارات المشاحنة والابتزاز، «العاطفي» تارة والتهديدي تارة اخرى.

يأتي البند الرابع عن اللقاء مقتضياً «التمسّك باستقلالية القرار الوطني وبمصلحة لبنان العليا في صياغة علاقاته الخارجية والالتزام بمقتضيات انتمائه الى المنظومتين العربية والدولية حتى لا تتشوَّه هوية لبنان ويصبح في عزلة عن محيطه العربي والدولي». يتضح إذاك ان الموقف ضد عرقلة تشكيل الحكومة، ومن اجل التقيّد بأحكام الدستور، لا يبعد كثيراً عن الموقف ضد عزل لبنان، وضد إخراجه عن المواثيق الدولية والاجماع العربي. تماماً مثلما ان بيت القصيد الذي تتقاطع فيه كل ابعاد اللقاء ومقرراته، هو رفض البند الخامس «رفض تحويل اي استباحة الى عرف جديد واعتبار المؤسسات الدستورية الإطار الوحيد لمناقشة الأزمات السياسية وحلِّها ورفض جميع الأساليب التي تهدّد بالانقلاب على الدولة او السطو على قرارها».

صحيح ان ما خرج به البيان من بنود اكثر ديناميكية من الاجواء الحذرة بين القوى التي تخللت اللقاء، لكن الأهم وجوب ان يلاقى هذا البيان من مروحة اوسع اسلامية ـ مسيحية مشتركة تقول بالملأ اننا وصلنا الى اوضاع «لا تطاق» ولا يمكن معها الاستمرار في «الترقيعات» السابقة، وقطعاً عدم الاستمرار في المراوحة والمكابدة الحاليتين.

اللقاء كان في الاتجاه الصحيح. يبقى الاستمرار في هذا الاتجاه.