الشعور بأنّ لا حلّ لمعضلة الشغور الرئاسي قبل كيت وكيت من الاستحقاقات الاقليمية المحتملة بل المبهمة، ومنها ما يتعلّق بمسار الأمور بين ايران والغرب، هو بحدّ ذاته شعور مرضيّ. يكاد الأمر يتحوّل الى طَقْس خطابيّ يوميّ رتيب. لا حيوية من أي نوع يذكر عند اثارة موضوع الشغور. تسليمٌ قدريّ تقابله محاولات افتعال ضغط «تعجيليّ» لا يلبث أن تتبعثر. اعتقاد ضمني شائع: بأنّ فترة الشغور الرئاسي المستفحلة هذه لن تترتب عنها أعباء اضافية حين يشغل أحد ما المنصب، ساعة يتأمن الظرف المؤاتي لذلك. اعتقاد ضمني مواكب: ان الشغور الرئاسي سبقت رؤيته في المرة السابقة أيضاً، وحُلّ الموضوع في النهاية، ولو من بعد مطلع حرب أهلية ما لبث أن أطفئت في أيام معدودات، وأنّه في كل الحالات هذا البلد بات معتاداً على الفراغ الحكومي فقيام حكومة، وعلى الشغور الرئاسي فانتخاب رئيس، ولا داعي لقلق عميق. يبدو الأمر اذّاك كما لو أنّها مشكلة عدم التزام بالوقت في ساعات دوام اداري ليس أكثر. هذه المجموعة من الأوهام تتسلسل من بعضها البعض، وهي تكبح الحياة السياسية بشكل مضاعف عمّا يفعله السياق الاقليميّ.

اعادة الاعتبار للسياسة تعني اعادة الاعتبار للعناصر الداخلية أولاً. صحيح، ثمة سياسات ايرانية خطيرة في المنطقة، وضمناً لبنان، وثمة ازدهار للجماعات الارهابية، وثمة نظام أسدي مستمرّ في قيادة عملية تدمير الكيان السوري، وثمة انتخابات اسرائيلية يسارها «معسكر صهيوني» يتسمّى، ولا ندري ان جازت تسمية معسكر بنيامين نتنياهو بالمدرسة الليكودية في «خط الممانعة». كل هذا حولنا. ونحن في كل هذا، انما باختلاف فيما بيننا، وتفاوت في درجة الانخراط. هناك من يعتبر كفاءته في تجاوز الحدود وهناك من هو مشاهد متحمّس، وهذا فارق كبير.

لكن وسط كل هذا ثمّة أزمة داخلية جديّة في لبنان، أزمة لا تختزل في انعكاسات وامتداد الأزمة الاقليمية. نحن ننتظر مسار السياسة الاقليمية لمعرفة كيفية تعبئة المنصب الرئاسي الشاغر، لكن ان ينتقل العامل الخارجي من تقرير مسار الانتخابات الرئاسية الى تقرير الشغور من عدمه، والامعان في الشغور كل هذه الفترة، فهذا يشي بأزمة هيكلية لبنانية داخلية، هي في المقام الأول أزمة علاقة بين مكونات هذا البلد. أزمة دستور بعينه؟ بل هي قبل كل شيء أزمة فكرة الدستور بحد ذاته في بلد كلبنان، توهمنا بأن عدداً من أبنائه ربما اختلفوا حول أي دستور يريدون لكنهم لن يختلفوا حول وجوب الدستور بحد ذاته. الدستور في تعريفه لا يفترض أن يكون الاجماع الوطني تعجيزياً، من نوع تعطيل مؤسسة دستورية أو مرفق عام أو يفرّغ منصب حتى تأمين الاجماع المطلق عليه. هذا هو عين الاعتباط. الدستور علاقة مع الزمن. التشريع زمن، التنفيذ زمن، القضاء زمن. والقضية اليوم في البلد ان يكون لديه زمنه او لا يكون. تجسيد القضية هو قضية استفحال الشغور. أما مطلق القضية فيتعلّق بالقيم التكوينية الاولية. ويجب وضع نواب المجلس أمام مسألة جوهرية: انه ليس صحيحاً ان الانتخابات الرئاسية مفتوحة الى ما لا نهاية.

الشغور مسألة مقلقة، في وضع كهذا، ربما جاز النقد الذاتي أيضاً: ما كان ينبغي ترك الرئيس ميشال سليمان يترك قصر بعبدا في مثل هذه الظروف، ما كان ينبغي احترام المهل الدستورية الى هذه الدرجة بالاستدامة في المنصب، ما دام البديل هو شغور مزمن لا يضع عدداً من المسؤولين الأساسيين عنه أنفسهم أمام أي روزنامة واضحة، وانما يشيعون، أقاويل وترجيحات، بأنّ الموضوع مؤجل الى حين اتضاح الوضع الاقليمي، وهذا يمكنه أن يتضح بعد مئة سنة.