لا يستطيع العماد ميشال عون أن يواصل ضغطه على «القوات اللبنانية» لتظهير موقفِها من ترشّحِه لرئاسة الجمهورية، أو أن يلومَها على تأخّرها في اتّخاذ هذا الموقف، لأنّ المواقف التي أطلقَها في مقابلته مع الزميلة «الأخبار» أمس جعَلت من المستحيل تبنّي ترشيحه الرئاسي.

المتضرّرون من الحوار بين «القوات» و«التيار الحر» كثُر، سواءٌ من حلفاء عون أو من أخصامه بطبيعة الحال، وقد نجَح هذا الحوار بتجاوز مطبّات عدة في مرحلة قياسية، خصوصاً أنّ أيّ اتّفاق بين الطرفين كفيل بإدخال تغييرات جَذرية على الواقع المسيحي، وفرضِ معطيات جديدة على المسرح الوطني.

وقد تخَلّل هذه المرحلة وجهتا نظر، الأولى قواتية تعطي الأولوية للحوار والمصالحة وطيّ صفحة الماضي وفتح أخرى جديدة للمستقبل والاتّفاق على كلّ ما يمكن التوافق حوله من عناوين وملفّات وقضايا. والثانية عونيّة تُبَدّي الملف الرئاسي على كلّ ما عداه، وقد وجّهت رسائل عدة فحواها أنّ شرط أيّ اتّفاق مع «القوات» هو انتخاب عون رئيساً.

وفي كلّ هذا الوقت أعطى عون انطباعاً أنّه سيكون رئيساً على مسافة واحدة من كلّ الأطراف، وأنّه قادر على التحالف مع «حزب الله» وعلى الحوار مع «القوات اللبنانية» وبناء علاقة ثابتة مع الرئيس سعد الحريري والتواصل مع الرئيس نبيه برّي وترييح النائب وليد جنبلاط. وأنّ المهمة التي يؤدّيها يتعَذّر على غيره تأديتها، خصوصاً أنّه يتمتع بتمثيل مسيحي مرموق.

وعلى رغم التقدّم البطيء للحوار، إلّا أنّه كان تقدّماً ثابتاً، وهذا الأمر مرَدّه إلى حِرص «القوات» على بناء علاقة مع «التيار الحر» على أرض صلبة لا متحرّكة، والأمور كانت على أفضل ما يرام بدليل البيان الذي صدرَ عن «القوات» يوم الاثنين الماضي وأكّدت فيه عدمَ وجود أيّ فيتو رئاسي على أحد، وذلك في إشارة واضحة إلى أنّ الرئاسة هي في صلبِ حوارها مع عون، وأنّ تأييدَ انتخابه هو احتمال قائم. وأمّا توقيت البيان وأهدافه فكانت لقطعِ الطريق على محاولات التشويش على الحوار بين الطرَفين من قبَل القوى المتضرّرة.

وإذا كان صحيحاً أنّ الحوار يأخذ وقتَه المطلوب، غير أنّ الصحيح أيضاً أنّه كان يسير بشكل تصاعدي وتراكمي إلى أن جاء حديث عون المستغرَب في توقيته والمعنوَن بمناسبة عيد ميلاده الثمانين الذي يصادف أساساً في 18 شباط الماضي، والاستغراب الأكبر يبقى في مضمون الحديث.

فالعماد عون لم يكن مضطرّاً لاتّخاذ مواقف يُسَلّف عبرَها «حزب الله»، لأنّ مشكلته، الظاهرية على الأقلّ، هي مع 14 آذار، وليس مع الحزب، وبالتالي يفترَض، على سبيل المثال، أن «يتواطأ» مع الحزب من أجل إطلاق مواقف ترضي 14 آذار، لا العكس، وذلك من أجل تسهيل وصوله، عِلماً أنّ المطلوب من الجنرال أن يكون على مسافة واحدة من 8 و 14 آذار ليس فقط على المستوى المحلّي، بل أيضاً على المستوى الإقليمي لجهة رفضِه التمحورَ إلى جانب طهران ضد الرياض، والعكس.

ولكن ما قام به الجنرال أنّه صعّبَ بل أقفلَ طريق الحوار في الملف الرئاسي، حيث إنّه قفَز فوق إعلان النيّات التي تشكّل نوعاً مِن مبادئ عامّة للحديث عن مشروعه السياسي، والذي أظهرَ أنّ الفوارق في الرؤية الوطنية ليسَت شكلية بل من طبيعة جوهرية.

وبمَعزل عن تنصّلِه من القرار 1559، علماً أنّ هذا القرار مستوحى من اتّفاق الطائف، وأدبيّاتُه تشكّل جزءاً لا يتجزّأ من هذا الاتّفاق، إلّا أنّ الخطورة تكمن في إعلانه أنّه في محور المقاومة، وفي ثنائه على قتال «حزب الله» خارج الأراضي اللبنانية بقوله «القبضاي يحارب خارج بلاده»، وأنّه بين الشرق والخط الأميركي اختار جذورَه.

فكان بإمكان عون أن يقول «أنا في المحور اللبناني» وليس في محور المقاومة ولا في محور عرَب الاعتدال، وأن يرفض قتال «حزب الله» خارج لبنان أو أن يضعَه تحت ذريعة مواجهة التكفير، وأن لا يتّخذ موقفاً من الولايات المتحدة التي يسعى محور المقاومة نفسُه إلى إبرام اتّفاق معها.

وفي مطلق الأحوال، يستحيل على الدكتور جعجع والرئيس الحريري أن يتقاطَعا على تأييد انتخاب عون رئيساً بعد مواقفه الأخيرة، لأنّه سيكون رأسَ حربة لطرَف داخليّ ومحور خارجي، ما يطيح بميزان القوى القائم، ويهدّد التوافق الموجود، ويدفع البلاد نحو الفوضى مجَدداً، ويُغلّب المحور الإيراني، ويُعيد الرئاسة الأولى إلى زمن الوصاية السوريّة.

وفي المقابل يستحيل على الرياض وواشنطن أن يغضّا النظر عن وصول مرشّح سيطيح بسهولة بميزان القوى الدقيق القائم، فضلاً عن أنّ وصوله قد يهدّد الاستقرار اللبناني الذي يشكّل أولوية دولية وعربية في هذه المرحلة.

ولكلّ هذه الأسباب وغيرها، لم يكن عون موفّقاً في مقابلته الأخيرة، وهو بدا كمن أطلقَ رصاصةً في رِجلِه، وبالتالي أصبح مبرَّراً لجعجع تحييد ملفّ الرئاسة عن الحوار مع عون. فالرئاسة أصبحَت عملياً خارج الحوار الذي من المصلحة استكماله للتوافق على ما دون الرئاسة.