محطتان على طريق الحوار السوري - السوري. الأولى في الاسبوع الثاني من هذا الشهر في القاهرة حيث يُفترض جمع كل أطراف المعارضة أو معظمها للتداول في تشكيل «وفد موحّد» أو «مشترك». وهذه خطوة كانت آخر محاولة لتحقيقها بُذلت برعاية الجامعة العربية مطلع تموز (يوليو) 2012، غداة صدور بيان جنيف الأول في 30 حزيران (يونيو)، ونتجت منها «وثيقة العهد الوطني» التي تضمنت خلاصة توافقات مبدئية بين معارضتي الخارج والداخل بشأن مستقبل الحكم في سورية، من دون معالجة نقاط الخلاف التي تمثّلت آنذاك بالموقف من «الجيش السوري الحرّ» ودوره المتصاعد، فضلاً عن الموقف من النظام «إسقاطاً» له بالقوة أو تفاوضاً معه على حكم انتقالي بوجوده أو من دونه.

 

 

المحطة الثانية متوقعة في الاسبوع الأخير من هذا الشهر في موسكو، حيث يُفترض أن يبدأ «الوفد الموحّد» نقاشاً حول جدول أعمال الحوار ثم ينضم وفد يمثّل النظام الى ما بات يسمّى «مؤتمراً تشاورياً»، بمعنى أنه مفتوح وغير ملزم، لكن اذا وجد كل طرف أن الاطروحات مناسبة يمكن عندئذ تحديد بداية للحوار. ليس معروفاً اذا كان الراعي أو المضيف الروسي، أو أي من الطرفين، سيطلب وضع سقف زمني. وليس معروفاً أيضاً اذا كان الشروع في الحوار سيتزامن مع هدنة ميدانية أو نوع من وقف اطلاق النار، فهذا يتطلّب أن تكون الفصائل العسكرية مشاركة وأن يكون هناك التزامٌ فعلي على الأرض.

 

 

من الطبيعي تصوّر أن الجانب الروسي سيحاول القيام بدور الوسيط لتدوير الزوايا وتقريب وجهات النظر، مستعيناً بالاتصالات والتنسيقات التي يجريها (مع مصر وتركيا من خلال زيارتي فلاديمير بوتين) وتلك التي اجراها مع ايران. ويجدر التذكير بدوافع هذه الدول، فروسيا شعرت بأن «التحالف الدولي ضد الارهاب» أدّى الى تهميشها فيما هي منهمكة بالأزمة الاوكرانية، لكن اشكالات هذه الحرب في سورية فتحت لها ثغرة للعودة الى المشهد عبر تنشيط «الحل السياسي»، وعلى رغم الخلافات منحها الاميركيون والاوروبيون تأييداً أولياً، أي مشروطاً. لم تتردد ايران في دعم تحرّك روسيا لعلمها أنها لم تبدّل أياً من مواقفها المعلنة طوال الأزمة السورية، لكنها تتنكّر الآن بدور الوسيط، ثم إن الدولتين خشيتا من تعفّن الصراع وتهديده مصالحهما، ولذا تراهنان على حل سياسي لا يمانعه أحد لكنهما تحرصان على ترتيبه بما يناسبهما.

 

 

ولما كانت تركيا تواجه مشاكل مع الولايات المتحدة في ما يتعلّق بقضايا تركية داخلية وبـ «الحرب على داعش» ومخرجاتها السورية، فقد آثرت أنقرة أن تدفّئ التقارب مع موسكو، ولعلها سمعت من بوتين ما شجعها على مساندة صامتة للمسعى الروسي. ومعلومٌ أن «إسقاط نظام بشار الأسد» هو أحد الشروط التي أعلنها رجب طيب اردوغان لمشاركة تركية نشطة في التحالف ضد الارهاب. أما مصر التي تطمح الى استعادة دور عربي فسرّبت مصادر مختلفة مراراً عزمها على طرح مبادرة من أجل سورية، لكنها أدركت الحاجة الى دفع دولي ولم تلمس استعداداً لدى الولايات المتحدة، لذا واظبت على الاتصال والتشاور بغية إنضاج الأفكار والمواقف المتوافرة. وعندما أبدت روسيا نيتها تحريك الجمود في الملف السوري، وجدت مصر أنها تستطيع توظيف علاقاتها المعقولة مع المعارضة السورية وعلاقاتها السويّة مع النظام لتفعيل حل ينسجم مع ثوابت سياستها التي هجست دائماً بالمحافظة على وحدة سورية وبقائها في/ أو عودتها الى الكنف العربي، ما يتناسب مبدئياً مع أهداف السعودية.

 

 

تستند روسيا، وفقاً لما يردّده مسؤولوها ومنهم المبعوث ميخائيل بوغدانوف، الى أن النظام والمعارضة بلغا نهاية الطريق في الأزمة. وعموماً بات الجميع، وبالأخص ستافان دي ميستورا صاحب خطة «تجميد الصراع بدءاً من حلب»، يرددون أن النظام ليس قادراً على استعادة الحكم والسيطرة على كامل سورية وأن المعارضة بالكاد تستطيع الحفاظ على مناطق سيطرتها أمام هجمات النظام وغزوات «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش». لا شك في أن هذا مبرر قوي للضغط على الطرفين للبدء بالتنازل وصولاً الى حل سياسي. وبناء على حصيلة المشاورات الروسية، يتبيّن أن موسكو تركز حالياً على الشكل وترحّل أي بحث في مضمون الحوار نفسه، بل تفضّل الإبقاء على الغموض بالنسبة الى المحاور الجوهرية التي يتوقف عليها الحل، وإنْ تذكّرت من حين الى آخر «بيان جنيف». واذا صحّت المعلومات عن لقاء بوغدانوف مع الأمين العام لـ «حزب الله»، وتأكيد الأخير أن «الأسد خط أحمر»، فقد يعني ذلك أن المبعوث الروسي دخل في التفاصيل، وطالما أن المكانة الايرانية لنصرالله زادت تميّزاً بفعل مشاركة حزبه في القتال، فلا بدّ من أنه يعبّر عن رأي المرشدية التي تولي موقفه من الحل في سورية أهمية خاصة.

 

 

لا تختلف روسيا مع ايران بالنسبة الى «الأسد خط أحمر»، فكلتاهما لا تنظر بارتياح الى «معارضة الخارج» وسقفها السياسي العالي وعلاقاتها الاقليمية، وتتوجس تحديداً من مطالبها المسبقة في ما يخص «رأس النظام». لا تنسى الدولتان أنهما ربطتا مصالحهما في سورية بوجود الأسد في السلطة، لكن الأزمة بلغت في بعدها «الداعشي» حدّاً يستدعي براغماتيتهما. فهما لا تجهلان أن «رأس الأسد» هو بالضرورة محور أي حل سياسي، وأن اصرارهما على بقائه بحجة «الحفاظ على الدولة والمؤسسات» لم يعد ذريعة قابلة للترويج لأنهما تعانيان من الاهتراء الذي انتابه ونظامه. أما الذريعة التالية أو بالأحرى خيارهما البديل فقد صيغ كالآتي: «الحفاظ على النظام من دون الأسد للحفاظ على الدولة والمؤسسات»، لكن مع افتراض توافق الروس والايرانيين، فإنهم لن يُقدِموا على إبدال الأسد بشخص آخر ما لم يفتح البازار أمامهم ليعرفوا مع مَن سيساومون وبأي ثمن وأي شروط.

 

 

في ضوء المعطيات الأولية، يبدو التحرك الروسي لمصلحة نظام الأسد، وهو لم يعلن موافقته على المشاركة في المؤتمر التشاوري إلا بعدما تعرّف الى مختلف التفاصيل. ولا تخفي الأطراف الثلاثة، روسيا وإيران والنظام، أنها تعوّل بشكل رئيس على معارضة الداخل وقابليتها للانخراط في حوار مع النظام واستعدادها للموافقة على حلٍّ يأخذ شكلياً بالخطوط العريضة التي تطرحها، لكنه حل يهدف خصوصاً الى تجديد «شرعية» النظام، وقد يتخذ شكل «حكومة مختلطة» يمكن أن تتولّى رئاستها شخصية معارضة لا تمانع وجود الأسد في الرئاسة، وأن يُعهد ببعض الوزارات الى معارضين آخرين. وقد يقال إن هذه حكومة «انتقالية»، في انتظار الدستور وقانون الانتخاب والأحزاب ثم الانتخابات نفسها فضلاً عن انتخاب رئيس («جديد»؟). في السياق، يُراد تهميش «الائتلاف» المعارض باجتذاب بعض وجـوهـه والحـؤول دون ترؤسه «الوفد الموحّد» للمعارضة وقيادته المفاوضات كما في جولتي جنيف أوائل 2014. ولأن مسار التفاوض سيكون طويلاً، فإن أعضاء «الائتلاف» المشاركين سيشعرون بأنه جرى توريطهم، فإذا واصلوا يحترقون سياسياً وإذا انسحبوا يُتهمون بالعرقلة والتعطيل، لكن الآخرين سيتابعون التفاوض... وصولاً الى «الحل».

 

 

ثمة أفكار متداولة في سياق التحضيرات، ومنها أن يجرى احترام تمثيل كل الفئات وضمان مشاركتها في كل المؤسسات. ولدى شرح هذه الفكرة يقال اختصاراً إنها قد تقتبس المعايير (الطائفية) التي صيغ بها «اتفاق الطائف» اللبناني. لكن، في كل الأحوال، هناك شروط أساسية لأي حل، كي يقترب من أن يكون حقيقياً، وأولها ألا يجرى تفصيله على مقاس الرغبات الروسية - الايرانية، وأن لا بدّ من أن يرسم خريطة خروج الأسد، طريقاً وبوابةً، بدءاً من إقرار إخضاع المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية للسلطة السياسية، أي للحكومة الانتقالية، بغية اعادة هيكلتهما وإبعادهما من التدخل في الحياة السياسية.