منذ تسرّب قرار الأمين العام لـ"تيار المستقبل"  أحمد الحريري القدوم إلى طرابلس لتفقد أوضاعها والاطلاع على حقيقة الأمور فيها، بدأت حملة تشويه واستهداف بدأت بالحديث عن الإلغاء أو التأجيل بانتظار التشاور مع وزراء ونواب التيار في طرابلس والشمال، ثم تواصلت عبر بعض الأبواق المخابراتية التي تكتب في الصحف المنحدرة، وشملت أيضاً تحريكاً لبعض الأشخاص وتضخيماً متعمداً لهم لإظهار أن هناك حالة اعتراض شعبية على دخول الحريري إلى التبانة.

فقد جال الحريري في أحياء وأسواق منطقة باب التبانة في طرابلس، على مدى يومين، في إطار متابعة تنفيذ هبة الـ 20 مليون دولار التي قدمها الرئيس سعد الحريري لطرابلس والشمال، فتفقد أوضاع أهلها، واطلع منهم على همومهم، وعاين معهم الاضرار التي خلفتها جولات العنف في أحيائهم ومنازلهم ومصالحهم، مؤكداً "إن اللقاءات مع أهل باب التبانة الأوفياء تفوح منها رائحة الرئيس الشهيد رفيق الحريري".

وأضاف أن "هدف زيارته باب التبانة التواصل مع أهلها، والاستماع إلى مطالبهم، والعمل قدر الإمكان مع أهلها الطيبين على إعادة هذه المناطق إلى سابق عهدها، والنهوض بها، كي تكون طرابلس الجديدة".

نظرة واقعية

لا شك أن "تيار المستقبل" عانى في السنوات الماضية من إشكالات كثيرة، كان أولها اضطرار الرئيس سعد الحريري للمغادرة، وغيابه عن المسرح الداخلي للتيار ولأهل السنة وعن الساحة السياسية وتحدياتها في هذه المرحلة المتخمة بالاستحقاقات الصعبة والمفصلية.

الإشكال الثاني، هو غياب الخدمات الاجتماعية وتراجع دور مؤسسات التيار في مناطق كثيرة ومنها طرابلس.

 الإشكال الثالث: تحدي العلاقة مع "حزب الله" في بعدها السياسي، وفي بعدها الأمني، حيث يشكل تغوّل المخابرات في البيئة السنية، على خلفية تدخل الحزب في عمل هذا الجهاز، إشكالية كبرى بكل ما للكلمة من معنى وأبعاد.

ولا شك أن المناطق السنية عانت معاناة شديدة من هذه العوامل السلبية، وأدت هذه المعاناة إلى إشكاليات متعددة الأوجه، يتعين على "تيار المستقبل" مواجهتها، والعمل على معالجتها، دون تجاهل أو تجاوز.. لأن هذه المصارحة ضرورية لتحديد مسار الخطوات المنتظرة، على الصعيدين السياسي – الأمني، والاقتصادي التنموي.

جدل ونقاش حول مبادرة الحريري

في المقابل، تبرز نقاط هامة في أبعاد خطوة الحريري، أهمها:

إذا صح أن للحريري ملاحظات على أداء "تيار المستقبل" في طرابلس، وأن جولته بعيداً عنهم جاءت لوضع النقاط على الحروف، فهذا يعني بداية مسار صحيح في إصلاح المسار، رغم أن الحريري أبلغ قيادات التيار بطبيعة الخطوات التي سيتخذها، وأنه سيبدأ مرحلة العمل المباشر لإعادة بناء الحالة السياسية والشعبية في عاصمة الشمال.

حاول البعض الإيحاء بأن تنفيذ هبة الرئيس سعد الحريري مؤجلة التنفيذ لنسف واحدة من أهم مرتكزات الحركة المستجدة لأمين عام التيار، في حين علمنا أن الهبة في التصرف وأن التنفيذ لا ينتظر سوى الخطوات التقنية لا أكثر.

وفي الواقع، لم يكن المقصود متابعة الهبة تقنياً، بقدر ما كان المقصود والتواصل مع الناس، لتحديد أولويات الهبة، لأن مسارها النهائي لم يـُحدَّد بعد، والأولويات ستكون في ضوء الثغرات التي يعانيها أهالي طرابلس، من خلال المتابعة المباشرة.

وفي هذا السياق يمكن النظر إلى السوابق في هبات سبق للحريري أن أعلن عنها، لنجد أنها كلها نـُفـّذت ولم يحصل أن تراجع الحريري عن هبة أعلن عنها، رغم وجود بعض الملاحظات حول أهمية اختيار الفريق المنفذ وحسن الضبط والحدّ من الهدر.

الحملة المضادة وخلفياتها

أعلن الحريري أن "وجودنا في التبانة من أجل أهلها لا من أجل المنافسة مع أحد".

وفي الواقع، فإن الهيجان الذي أصاب البعض للتشويش على مبادرة الحريري، جاءت من مصادر عدة، صبت في اتجاه واحد:

·       بعض أنصار الرئيس نجيب ميقاتي، متأثرين بأجواء التصعيد التي اعتمدها الأخير في مقابلته التلفزيونية، فباشروا حملة تحريض عنيفة اعتمدوا فيها إثارة ملفات كان الأولى عدم الخوض فيها، خاصة مسألة المسؤولية عن دعم الشباب المسلحين خلال فترة الاشتباكات مع ميليشيا علي ورفعت عيد في بعل محسن، لأن إثارة هذه القضية لا يصب في صالح الرئيس ميقاتي، فلكل يذكر أموال الإغاثة وتسخيرها خلال تولي الرئيس ميقاتي رئاسة الحكومة، وما أثير حولها من إشكالات.

لا نعتقد أن من مصلحة الرئيس ميقاتي فتح مثل هذه السجالات لأن ذلك سيدفع الكثيرين للانزلاق إلى ساحة النزال السياسي، وربما يتخذ ذلك شكل أساليب صفراء، وليس هذا ما نتمناه ولا يجب الهبوط إلى هذا المستوى.

الأولوية الآن استنقاذ طرابلس وتحريرها من قبضة الاستنسابية الأمنية، وهي مشكلة اعترف بها الرئيس ميقاتي، ومن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، لا أن ينفتح الأمر على الصراع السياسي وإسقاطه على المناطق الفقيرة.

والتنافس في خدمة الناس أمر جائز، بل ومطلوب، ونذكر هنا أن الرئيس ميقاتي باشر منذ مدة جملة خطوات لم يقابلها "تيار المستقبل" بما قابل بعض أنصاره مبادرة السيد أحمد الحريري، فهو أعلن عن صندوق تنموي لطرابلس، ونزلت فرق جمعية "العزم والسعادة" إلى المناطق المتضررة دون حصول أي مناكفات أو تشويش.

·       أبواق المخابرات الصحافية، حيث اختص البعض في تلقي التعليمات الأمنية للتشويه، وهؤلاء لا يأخذون بأي قاعدة من قواعد المهنية والأخلاق الإعلامية، وهؤلاء على محدوديتهم، إلا أنهم يعكسون إرادة جهات أمنية لا تزال تعيث الفساد وتضع أصابعها في الحياة السياسية والاجتماعية.

والمفارقة أن كثيرين من كتبة الأجهزة لا نراهم يظهرون أو يبثون سمومهم إلا في التخريب، بينما لا نسمع لهم صوتاً في أي حركة أو مبادرة إيجابية بنـّاءة لصالح المدينة، حتى لو جاءت من أطراف تواليها في السياسة، مما يكشف أن هدفها الأساس هو ضرب طرابلس وتشويهها، عبر صحف سوداء، أصحاب بعضها باتوا يحتاجون إلى مصحات وعلاجات نفسية.

"تيار المستقبل": فرصة للانفتاح

يستطيع الكثيرون توجيه الكثير من الانتقادات إلى تيار المستقبل، لكن هذا لا يغيّر من واقع أنه لا يزال الممثل الفعلي لأهل السنة، وأن الأمر الأكثر عملانية هو التحرك المنظم والفعال للحوار مع قيادة التيار وشرح حقيقة المشاكل وخطورة الاستمرار في التغاضي عنها، وهذا يدفعنا إلى دعوة الفعاليات والطاقات والناشطين إلى التحرك في هذا الاتجاه، متوقعين أن تفتح قيادة التيار الباب لاستيعاب المتغيرات الحاصلة والإفادة من حماسة الكثيرين من هؤلاء للانفتاح والعمل بعيداً عن أعباء العلاقات الثقيلة في بعض المواقع والحالات..

ان هناك حقيقة أخرى هامة، وهي أن الانتقادات في مجملها هي للقول لـ"تيار المستقبل" إنه عليه القيام بواجباته، وليس لأنها تريد شطبه من المعادلة، وهذا يجعل ما يقوم به أحمد الحريري أمراً له أهميته، لأنها تعيد للناس الأمل في عودة "تيار المستقبل" لتطبيق ما يطرحه من شعارات وأهداف، بناءً عليها أيدته شرائح واسعة من اللبنانيين.