بعدما تبنّى «حزب الله» ترشيح العماد ميشال عون علناً، وتراجع الأخير عن وسطيته، وإعلانه التموضع الكامل إلى جانب «الحزب» بكلامه عن «التكامل الوجودي» معه، وردّ المعاون حسين خليل التحية بأفضل منها بأنهما «أصبحا كالجسد الواحد»، انتقل عون مباشرة إلى المرحلة الثانية العملية.

لم يعد باستطاعة «حزب الله» الاكتفاء بمسايرة عون لفظياً، إنما يفترض بالحزب، بالنسبة إلى رئيس التيار العوني طبعاً، أن يترجم دعمه على أرض الواقع من خلال الضغط على النائب وليد جنبلاط لانتخابه.

فقول عون «إذا تعهّد رؤساء الكتل بالتزام التصويت لي أو للدكتور جعجع حصراً في انتخابات الرئاسة فسنشارك في جلسة انتخاب رئيس جديد للجمهورية»، يَضع الكرة في ملعب «الحزب» وجنبلاط.

فالعماد عون حاول أن يرفع عن نفسه مسؤولية تعطيل الانتخابات الرئاسية باشتراطه أن تنحصر المعركة بينه وبين جعجع، ولكن على رغم عدم جواز هذا الاشتراط الذي يتنافى مع أبسط قواعد الديموقراطية، وعلى رغم أيضاً أن المشكلة ليست في عدد الترشيحات، بل في رفض عون أساساً المشاركة في جلسات الانتخاب، وعلى رغم أيضاً وأيضاً أنها مزايدة مسيحية من باب انه ضد انتخاب أيّ رئيس غير تمثيلي، إلا أنّ مبادرة عون الرئاسية تحمل أكثر من عنوان:

أولاً، دعوة عون الكتل إلى التعهد بالتزام التصويت له أو لجعجع يؤشر إلى مخاوفه من تأمين النصاب وفتح الباب أمام طبخة رئاسية تقود إلى مرشح تسوية.

ثانياً، ردّ عون التحية إلى جعجع بالموافقة على المنازلة معه حصراً، وهذه التحية تعني إقراراً من عون بالحيثية التمثيلية لجعجع، وعلى رغم أنّ الأخير ليس في حاجة لهذا الإقرار، لأنه وعون الأكثر تمثيلاً وفق كل الإحصاءات العلمية، إلا أنّ هذه الخطوة تعبّر عن رغبة في الانفتاح على جعجع، وتؤشّر إلى الآتي:

أ- عون متأكد أنّ «حزب الله» يمكن ألا يضغط على جنبلاط لانتخابه، ولكنه سيضغط عليه حكماً لمنع وصول جعجع. وبالتالي، لا يشكّل هذا التحدي خطراً بالنسبة إليه.

ب- يريد تشجيع رئيس «القوات» على التمسّك بثنائية عون-جعجع من دون الذهاب نحو خيار ثالث، خصوصاً أن رئيس «القوات» كان أوّل مَن طرح هذه الصيغة، ولكنّ حرصه على انتخاب رئيس جديد دفعه إلى الدعوة نحو ملاقاة الفريق الآخر.

ج- إنتقال عون من صيغة «أنا أو لا أحد» إلى الثنائية مع جعجع دليل على أنه «محشور» جداً، وإلا لَما كان في وارد تسليف جعجع إقراراً من هذا النوع.

ثالثاً، حاول نقل كرة التعطيل من ملعبه إلى ملعب جنبلاط بتحميله مسؤولية استمرار الفراغ في حال رفضه التصويت له أو لجعجع. وعلى رغم عدم موضوعية هذا الموقف ومشروعيته، إلا انه يدغدغ القواعد المسيحية، ويحوِّر الأنظار إلى مكان آخر، وينزع عن نفسه صفة المرشّح الأوحد، ويصوّر شخصه بأنه مع الخيار الذي يعيد التمثيل للمسيحيين.

رابعاً، رَمى الكرة أيضاً في ملعب «حزب الله» الذي عليه أن يقرن أقواله بالأفعال، لأنه إذا كان الترشّح من مربّع وسطي لا يلزم الحزب القيام بأيّ شيء، فإنّ الترشّح من مربّع فئوي يجعله «ملزماً» على فِعل أيّ شيء لإيصاله.

فالمبادرة العونية لا أفق لها في حال لم يبدّل جنبلاط في موقفه، كما لا أفق ما لم يتبنّها «حزب الله» كجزء من معركته، ولكنّ رئيس «الاشتراكي» رفضها في لحظتها، ولا مؤشرات بأنّ الحزب يريد في هذه اللحظة استعداء «المستقبل» من خلال قلب التوازنات الداخلية لمصلحته، وذلك ليس تعففاً منه أو احتراماً للتوازنات، بل لأنّ أولويته اليوم التعاون الأمني-السياسي مع «المستقبل» لمواجهة القوى المتطرفة في الشارع السنّي. وبالتالي، لن يقدم على ما من شأنه أن يعكّر العلاقة مع الاعتدال السني.

وإن دَلّت المواقف المتلاحقة لعون من «التكامل الوجودي» إلى المبارزة مع جعجع على شيء، فعلى أنّ عون متوجّس من تسوية رئاسية على حسابه، الأمر الذي يفسّر هذا التخبّط في أدائه، ومحاولته الأخيرة ترمي إلى ثَني جعجع عن تغطية هذه التسوية، لأنه في حال اضطر «حزب الله» لاعتبارات دولية-إقليمية إلى فك ارتباطه بعون رئاسياً، فرئيس التيار العوني يريد أن يضمن غياب الغطاء المسيحي للتسوية المحتملة في إعادة لسيناريو التقاطع في العام 1988 لاستبعاد النائب السابق مخايل الضاهر، فيما وظيفة التقاطع اليوم، بالنسبة إلى عون، قطع الطريق أمام أيّ تسوية رئاسية.

ففي أقلّ من أسبوعين تخلّى عون عن وسطيته والتصق بـ«حزب الله» لإحراجه وطنياً، وانفتح على جعجع لإحراجه مسيحياً. وبالتالي، لو لم يستشعِر وجود مناخات ومعطيات تؤشر إلى انتخاب رئيس جديد وخروجه من المعادلة الرئاسية، لَما بادر باتجاه الضاحية ومعراب، وفي سبيل مضاعفة الإحراج لم يعد مستبعداً، بعد كلامه الأخير، رؤيته قريباً في معراب.