ماذا لو فتحت صناديق الاقتراع في أقضية الشمال، وخصوصا في طرابلس؟ يجيب أحد المقربين من «تيار المستقبل» بأن احتمالا كهذا «كان سيضعنا وغيرنا من السياسيين في طرابلس في خانة اليك». هذه هي حال كل أهل السياسة في طرابلس مع شارع طرابلسي غاضب وناقم ولا يريد أن يكرر تجربة الرشى الانتخابية. لذلك، كان تعامل طرابلس مع التبرع السخي للرئيس سعد الحريري بمبلغ عشرين مليون دولار أميركي باهتا جدا، بالرغم من أهميته المعنوية إذ أعطى إشارة حاسمة الى ضرورة إعفاء طرابلس من المهمات العسكرية التي أوكلت إليها منذ 7 أيار 2008. ولعل أهمية ما حصل في المعركة الأخيرة التي خاضها الجيش ضد المجموعات المسلحة، أنه أسقط كل «المحميات» و«المحرمات». وذلك دلّ على وجود قرار دولي ـ إقليمي كبير جدا دفع الجميع إلى أحناء رؤوسهم أمامه، وصولاً إلى انقلاب البعض على مواقفه التحريضية السابقة، وتخليه النهائي عن المجموعات المسلحة التي كان يدعمها ويدافع عنها ويتحصن بها سياسياً. ويمكن القول إن طرابلس تحوّلت على مدار تسع سنوات إلى حقل من التجارب الأمنية، للوصول من خلالها الى تحقيق مكاسب سياسية. في البداية، كانت تجربة تيار «المستقبل» لايجاد قاعدة أمنية سنية تواجه «حزب الله»، فأسس «أفواج طرابلس» مطلع العام 2006، ليتمّ حلّها في ما بعد. ثم كان اتهام الرئيس سعد الحريري للنظام السوري باغتيال الشهيد رفيق الحريري الذي ترجم بجولات عنف بين التبانة، التي أعطت «الحريرية السياسية» ما لم تعطه في تاريخها لأي تيار سياسي آخر، وبين جبل محسن، الذي دفع أهله ضريبة انتماء «الحزب العربي الديموقراطي» للنظام في سوريا. بعذ ذلك، جاء الاحتضان الذي وفّره «تيار المستقبل» للمجموعات الاسلامية المتشددة، للرد من خلالها على خصومه ووضعهم أمام خيارين: التعامل مع الاعتدال أو المواجهة مع السلفيين. ثم كان انهيار توافق ما عرف بـ«السين سين»، فاشتعلت محاور طرابلس بجولات عنف مع عودة الاشتباك الاقليمي وانعكاساته الداخلية على الساحة اللبنانية والطرابلسية. بعدها انتقلت كل التوترات الى عاصمة الشمال عندما قبل الرئيس نجيب ميقاتي تكليفه برئاسة الحكومة. ومع انطلاق الأزمة في سوريا، وجدت طرابلس من يريد تحويلها الى حاضنة للمعارضة السورية المسلحة، بتعويم متشددين أعلنوا الجهاد ضد النظام السوري من طرابلس، وبدأوا يشكلون مجموعات مسلحة تحت هذا الغطاء نمت وكبرت ووسعت نفوذها ومن ثم انقلبت على القيادات السياسية والمشايخ بعدما وجدت طريقا للتواصل المباشر مع قيادات خارج الحدود. ودفعت طرابلس ثمنا باهظا بتفجيرين إرهابيين استهدفا مسجدي «التقوى والسلام». ولا تزال المدينة تنتظر استكمال التحقيقات بعد اتهام وتوقيف أشخاص من جبل محسن، واتهام النائب السابق علي عيد بتهريب أحد المتورطين. بعدها، أمسكت المجموعات المسلحة بمفتاح الحرب والسلم في المدينة، قبل أن تأتي الخطة الأمنية المتوافق عليها محليا وإقليميا وتقفل محاور القتال وتضع قادة المحاور في السجن، مع بعض مسؤولي «الحزب العربي الديموقراطي» الذي فر مسؤوله السياسي رفعت عيد الى سوريا، لكن هذه الخطة لم تكسر كل الخطوط الحمر. وآخر الأثمان التي دفعتها طرابلس كان بفعل تحريض عدد من نواب «كتلة المستقبل» على الجيش اللبناني والمهمات التي يقوم بها، ما ساهم عن قصد أو عن غير قصد في إعادة تأمين غطاء سياسي لمجموعات مسلحة لا تشبه من سبقها في التبانة، خصوصا مع إعلان انتمائها الى جبهة «النصرة» و«داعش»، قبل أن تستشعر كل القيادات السياسية والدينية الخطر الداهم، فكانت معركة الأسواق وبعدها معركة التبانة التي ضربت البنى التحتية لهذه المجموعات، وأعادت فرض الأمن بشكل غير مسبوق طيلة السنوات التسع الماضية.