لم يكن «التنسيق ضد داعش» بين الولايات المتحدة وإيران مفاجأة إلا لمن يرغب في التفاجؤ. فالتنسيق قائم على نحو ضمني مباشر أو غير مباشر في العراق وسورية واليمن والبحرين ولبنان، وكان يمكن أن يكون أكثر عمقاً وعلنيةً لو توافرت الشروط التي تغطي كل طرف وتظهره كأنه لم يتنازل عن مواقفه المعلنة، اي عن «ثوابته» و «مبادئه» اذا جازت التسمية. واستناداً الى اللغة المستخدمة في الحديث عن «اتفاق نووي» يمكن استنتاج وجود عناصر اتفاق تتطلّب «بعض التنازلات» لكي تتم الصفقة، وقد تتبلور معالمها بعد محادثات مسقط. واذا كان محور المقايضة أن تسهّل اميركا إنهاء أزمة البرنامج النووي مقابل أن تساعدها ايران في محاربة «داعش»، فإن سؤالين يُطرحان: هل تسعى واشنطن وطهران فعلاً الى إنهاء هذا التنظيم الارهابي أم أنهما تفضّلان ضمناً استخدامه، وهل إن طهران باتت جاهزة لأن تدفع من برنامجها النووي ثمناً لـ «رفع كامل وفوري للعقوبات» كما تطلب؟

 

 

أن تعتبر دولة نفسها معنية دولياً بمكافحة الارهاب، فهذا يعني أنها دولة ذات مسؤولية عالمية. يفترض أن هذا التوصيف لا ينطبق على ايران بل على الولايات المتحدة. وعلى ذلك، فقد كان لمحاربة «داعش» في العراق أن تبدأ قبل ثمانية أعوام في العراق عندما عيّن نوري المالكي رئيساً للوزراء بـ «تفاهم» بين اميركا وإيران واعتراف للأخيرة بدور ونفوذ في العراق، أي بعدما جرى تذويب التشنج بين الطرفين، ولم تعد طهران متوجّسة من سعي اميركي الى زعزعة النظام الايراني وتغييره. وعدا بعض المآخذ بين حينٍ وآخر، تعايشت واشنطن مع النهج الايراني في ادارة حكومة المالكي ضدّ سنّة العراق ومعاملتهم جميعاً كإرهابيين، اذ كان الأساس عندها استقطاب ايران واجتذابها الى اتفاق يوقف اندفاعها نحو انتاج قنبلة نووية...

 

 

من جانب آخر، كان لمحاربة «داعش» أن تبدأ قبل ما يقرب من ثلاثة أعوام في سورية، بعد ظهور «جبهة النصرة» كفرع لتنظيم «دولة العراق الاسلامية» المعروف بولائه لتنظيم «القاعدة» (قبل انشقاق «أبو بكر البغدادي» عن أيمن الظواهري)، أي بعد دخول وباء الارهاب الى مناطق المعارضة السورية ليتناغم مع ارهاب نظام بشار الأسد فيتبادلان الخدمات ضمناً وعلناً، بتنسيق ساهمت فيه بغداد وطهران، ولم يكن الاميركيون يجهلون الأمر، لكنهم فضّلوا الصمت. وأصبح معروفاً جيداً لماذا كان هذا الصمت: لأن ثمة خطاً واحداً كان يجمع أربعة أطراف رئيسة (اميركا وروسيا وإيران وإسرائيل) على المحافظة على النظام السوري، كلٌ لأسبابه. لعل اميركا تمايزت داخل هذا الخط بمطالبتها بتنحّي الأسد، لا لمصلحة المعارضة وإنما لمصلحة تغيير من داخله، لتسهيل تسويقه دولياً، ولتمكينه من الشروع ببداية جديدة. ولأجل ذلك، امتنعت عن تسليح المعارضة، بل كشف باراك اوباما في أحد تصريحاته أنه لم يقتنع يوماً بهذه المعارضة ولا بتركيبتها السياسية، لكن ادارته واظبت على تأكيد رغبتها في «المحافظة على المعادلة الميدانية من أجل الحل السياسي»، إلا أن حجب السلاح عن المعارضة ظلّ مؤشراً ثابتاً الى أن واشنطن لا تبالي حقيقةً بتلك «المعادلة». وعندما أقرّ أوباما أخيراً بأنه أخطأ في تقدير خطورة «داعش» لم يقرّ في الوقت نفسه بأنه أخطأ في عدم الاهتمام حتى بما يسمّيه «معارضة معتدلة».

 

 

في المقابل، تمايزت ايران أيضاً بكونها الطرف الوحيد القادر على إحداث التغيير داخل نظام الأسد، وفي انتظار صفقة مع الاميركيين صارت ساهرة مباشرة على سلامة شخوص النظام، كما ضغطت عسكرياً لتغيير ميزان القوى على الأرض، ولم يبدِ الاميركيون أي استياء من هذا التطوّر طالما أنه لم يعطل استراتيجيتهم. تزامن هذا الإنجاز الميداني مع تعاظم تركيز الإعلام على تصاعد خطر الارهاب في سورية، وقررت ايران عندئذ أنها لم تعد في حاجة الى أي تناغم أو تنسيق مع «داعش»، وأن «المعركة الآن أصبحت مع التكفيريين»، ما أصبح لازمة رئيسة لخطاب «محور الممانعة». وفيما استمرّت طهران (مع ميليشيا «حزب الله» اللبناني وميليشيات عراقية) في خوض حرب دمشق وبغداد ضد المعارضتين (السنّيتين)، كانت تخاطب القوى الخارجية بتسليط الضوء على الارهاب و «التكفيريين»... الى أن أصبح الارهاب هو القضية التي تشغل العالم، حاجباً الى حد كبير وظالم قضيتي الشعب السوري ومكوّن أساسي من الشعب العراقي، وجالباً مزيداً من الخراب والدمار الى مناطق كان نظاما الأسد والمالكي قد أمعنا في الإجهاز عليها.

 

 

قال اوباما في رسالته الى المرشد الايراني: لدينا «مصالح مشتركة» في محاربة «داعش». غير أن هذه المصالح لا تتطابق تماماً مع «المصالح المشتركة» مع سائر أعضاء «التحالف» الذي شكّل للغاية ذاتها، لا سيما الشركاء العرب الذين شكوا مراراً من وجود خطرين ارهابيين عليهم: «داعش» وايران. وإذ تزامن الكشف عن هذه الرسالة السرّية مع خسارة الحزب الديموقراطي الغالبية في مجلسي الكونغرس، فقد انهالت الانتقادات لا للرسالة نفسها بل للسياسة المبهمة التي ينتهجها اوباما، فهل يمكن الرئيس الاميركي أن يكون جاهلاً تماماً بحقيقة السياسة الايرانية، وهل هو مستعد لخذل حلفائه وأصدقائه في المنطقة بدفع ثمن باهظ من أمنهم واستقرارهم للحصول على اتفاق نووي، وأي رئيس دولة كبرى هذا الذي يخوض حرباً وهو لا ينفكّ يعلن أنها قد تحقق أغراضها أو لا تحققها، فلماذا هذه الحرب اذاً ولماذا هذا «التحالف»؟

 

 

واقعياً، لم يقتصر «التنسيق» في العراق على استبدال حيدر العبادي بالمالكي، بل تمثّل بتقاسم المهمات وفقاً لمعادلة «للأميركيين الجو وللإيرانيين الأرض»، بإشراف الجنرالين جون آلن وقاسم سليماني، فالأخير لم يعد يغيب عن أرض المعارك في الأنبار. لكنها معادلة خادعة، اذ دفع سليماني بميليشياته العراقية كإسناد برّي للضربات الجويّة، وأدرك سنّة العراق وعشائرهم أن بديل «جيش المالكي» الذي قاوموه هو «ميليشيات سليماني» التي يرفضونها، ولا خيار آخر أمامهم سوى «داعش» الذي يريدون التخلّص منه. وهكذا غدا حديث رئيس الاركان الاميركي عن استمالة العشائر وتجنيدها ضد «داعش» مجرد وهم، خصوصاً أن واشنطن عهدت بالمهمة الى حكومة العبادي مثلما فعلت حين سلّمت «الصحوات» الى المالكي. وما حصل فعلياً أن عشيرة البونمر خسرت نحو خمسمئة من أفرادها، فلا بغداد ولا الاميركيون وجدوا سبيلاً لمساعدتها ولا حتى بغارات جوية... وليس مستبعداً أن تلقى عشائر اخرى مصيراً مماثلاً طالما أن بغداد تتعامل مع تجنيد العشائر كدعاية اعلامية متلفزة لا كعمل حربي يتطلّب الحيطة والحماية. كل ذلك يشي بأن اللعبة «المالكية - الايرانية» لم تتغيّر في العراق ولا تزال تدار بالعقلية ذاتها، فالخصم الأول للإيرانيين هم سنّة العراق وقد استُخدم «داعش» لشيطنتهم ويمكن الآن أن يُسحق في سياق سحقهم.

 

 

لا يختلف الأمر كثيراً في سورية، اذ استُخدم «داعش» أيضاً لاختراق مناطق المعارضة ولإظهارها كحالٍ ارهابية، فلم يُترك للشعب السوري الآن سوى الخيار بين الأسد أو «داعش». وخلافاً لاعتقاد سابق، فإن طريقة عمل «التحالف» حالياً عادت فتكيّفت في خدمة ايران وحلفائها، لا لتقضي على الارهاب. وكما كان متوقعاً، فإن وقف الزحف «الداعشي» على عين العرب (كوباني) سيدفع بهذا التنظيم ورديفه («جبهة النصرة») الى مناطق المعارضة في حلب وإدلب وريفي حماه وحمص، وسيصبّ ذلك في المصلحة المباشرة لنظام الأسد والإيرانيين الذين سيدفعون عندئذ، كما في العراق، بميليشيات النظام و «حزب الله» وسواه لمواجهة «داعش»، اذ لا خيار آخر لـ «التحالف»، كما أنه يشكّل تجسيداً لـ «المصالح المشتركة» بين اوباما وخامنئي.

 

 

يصعب القول إن الشهور الثلاثة التي مضت على بداية «الحرب على داعش» أعطت فكرة عن مسارها، ثم إن أحداً لا يعرف ما الذي يجري تماماً وكأنها حربٌ بلا إعلام، أو بالأحرى ينفرد فيها «داعش» بإعلام الأشرطة. اذ يكتفي الاميركيون بالإعلان عن مواقع أغاروا عليها، فيما تهلل بغداد لـ «انتصارات» تحققها، لكن شيئاً لم يتغيّر على الأرض، في العراق وسورية، أو يتغيّر لمصلحة «داعش».