في بحثها عن عدو تلقي عليه اللوم في النكبات المتتالية التي تنزل بها، وجدت النخب العربية ضالتها الجديدة في «البرابرة».

 

 

وبعد عقود من تحميل الصهيونية والإمبريالية والغرب وإيران مسؤولية التخلّف والتراجع والتفكّك والهزائم الكثيرة التي احتلّت مساحة القرنين الماضيين وجعلت العرب يخفقون في كل مشاريع بناء الدول والمجتمعات وتحقيق نهضة في أي مجال كان، من الاقتصاد الى الثقافة، وجد عدد من الكتاب والسياسيين العرب شماعة اضافية يعلقون عليها حالة الفوات التي تعاني منها بلادهم: انهم البرابرة.

 

 

وهؤلاء، وفق التعريفات التي راحت تتسلل الى المقالات والندوات، كائنات غريبة قذف بهم قدر أعمى الى منطقتنا. فقد نبت البرابرة في الصحارى المقفرة وتقدموا ليغزوا حواضرنا ومدننا ويدمروا آثار حضاراتنا ويفرضوا حكمهم الظلامي علينا نحن، اهل التنوير الأصيل وخلاصة الرقي والعلم.

 

 

لا شيء أبعد عن الواقع من هذه الصورة الرامية، كالعادة، الى التخلص من الآثام بإلقائها على الآخرين او في احسن الأحوال بدفعها تحت البساط باعتقاد ان ما لا يُرى لا يمكن البرهنة على وجوده.

 

 

وتصدر هذه الرؤية النافية لانتماء «البرابرة» الى مجتمعاتنا وبيئاتنا الحضارية - بالمعنى الواسع للكلمة - عن خشية شديدة من الاعتراف بعمق الهوة التي تردّت اليها مجتمعاتنا العربية. في المقابل، ليست نادرة حالات انهيار المجتمعات ونكوصها كلياً أو جزئياً الى البربرية او ما يشابهها.

 

 

الدروس التي توصل اليها علماء الاجتماع والإنتروبولوجيا والتاريخ والذين تناولوا ظاهرة انهيار المجتمعات وخروجها من الحضارة، ما زالت تنتظر من يقرأها في العالمين العربي والإسلامي. تصح هنا الإشارة الى مؤلفات جاريد دايموند («مدافع، جراثيم وفولاذ») وجوزف تاينتر («انهيار المجتمعات المركّبة») وقبلهما ليوبولد كور («تفكك الأمم»). ويمكن اضافة كتاب آلان تورين «براديغما جديدة لفهم عالم اليوم» كمحاولة لربط الأزمات الاقتصادية والسياسية في زمن العولمة بأزمات المجتمعات وافتقارها الى ما يجمعها ويدفع، بالتالي، اعداداً كبيرة من الشبان الى الهوامش وإلى الخروج عن المؤسسات التي بناها الأنسان على مدى قرون من السعي الى التقدم والحداثة. تندمج في هذه العناصر عوامل بيئية طبيعية وانفجار سكاني وانظمة استبداد متخلفة فتتهيأ الأرض لاستقبال كل انواع النوابت الشاذة والغريبة.

 

 

وليس تدمير الآثار والعودة الى استعباد الأعداء وسبي النساء والأطفال من فعل برابرة سقطوا من المريخ. فهذا تجاهل لعوامل موضوعية قابلة للإدراك العقلاني اعتملت امام انظار السلطات العربية على انواعها وسط تجاهل كامل لتبعاتها وما يمكن أن تفضي اليه.

 

 

ولمراقب ان يرى أن منطق الإدانة لأعمال «البرابرة» يكرّر بل يحذو حذو النعل للنعل (على ما كانت تقول العرب) ذات منطق التبرؤ من التقصير الذاتي، السلطوي والمجتمعي، وكيْْل الاتهامات الى عدو خارجي شرير كلّي القدرة ومتحكّم بمصائرنا كأفراد وجماعات بل مؤثر في أساليب تعاملنا مع أبنائنا.

 

 

وما يجري اليوم، يتلخّص في حقيقة بسيطة: إننا نواجه في هؤلاء «البرابرة» ذواتنا التي امتنعنا عن تعليمها وتوفير فرص العمل اللازمة لها ومنحها حقها في المشاركة السياسية. فكان ان اختارت الحل الأسهل بالخروج من ازمتنا الحضارية نحو ماضٍ متخيّل يتيح لها تحقيقه المادي، عيشَ مغامرات الفتوحات والبطولات التي عاشها الأسلاف. يجري كل هذا فيما بلادنا تتراجع في كل الميادين ما يبرّر لنا انتظارَ أجيال جديدة من البرابرة.