إذا أخذنا أصحاب حفلات توقيع الكتب الجديدة في معرض بيروت للكتاب العربي والدولي في سنته الحالية، كمؤشر (جزئي) إلى أحوال الكتابة والقراءة في لبنان حالياً، وإذا نظرنا في صور حضور هذه الحفلات ومشتري الكتب والساعين إلى الحصول على توقيع الكاتب، لوجدنا جمهرة كبيرة من الكهول يتخللها بعض الوجوه الشابة.


القسم الأكبر من الكتًاب الموقعين يزيد متوسط أعمارهم على الخمسين عاماً زيادة واضحة فيما تتركز عناوين كتبهم على قضايا العلوم الإنسانية عامة مثل اللغة (أحمد بيضون «في صحبة العربية») والتاريخ (فواز طرابلسي «سايكس - بيكو - بلفور») مع الإشارة إلى صدور خمسة كتب للمؤلف ذاته هذه السنة، وعبد الرحيم أبو حسين («صناعة الأسطورة»)، أو الفنون مثل السيرة (وضاح شرارة «أحوال أهل الغيبة») والرواية (إلياس خوري «أولاد الغيتو 2») والشعر (شربل داغر «يا حياة أتوق إليك... فتجيبني أتوق إليك») مع بعض التعسف في الفصل بين العلوم الإنسانية والفنون الأدبية.


العينة هذه ورغم عدم شمولها الصورة الكاملة للمؤلفين، تعطي فكرة عامة عن الكتّاب اللبنانيين الحاليين. والمذكورون أعلاه هم من شخصيات الثقافة اللبنانية التي بدأت إنتاجها المنشور كتباً ومقالات ودراسات منذ ما قبل الحرب الأهلية (1975 - 1990). سيفضي البحث عن مؤلفين ممن تقل أعمارهم عن الأربعين عاماً في مجالات العلوم الإنسانية عن حصيلة شديدة التواضع في حين تبرز أسماء شابة في عالمي الرواية والشعر.


ثمة ابتعاد، إذن، بين الجيل الشاب من الكتّاب أو الطامحين إلى دخول عالم التأليف وبين الاهتمام بالتاريخ والسياسة والاجتماع وهو ما كان للجيل الأقدم من المؤلفين سهم كبير فيه أفضى إلى تفكيك الأساطير المؤسسة للبنان ونقد ثقافته وسياسته واقتصاده، وذلك في الوقت الذي تسير فيه الشؤون اللبنانية العامة مساراً منحدراً ليس في قدرة أحد التنبؤ بعمق القاع الذي سترتطم به ما لم تظهر معجزة تنقذ البلد وأهله من أهوال الانهيار.


والقول إن المقاربة الروائية في المقام الأقرب والشعرية في مقامات أبعد، لا تخلو من نظر ونقد لحال الجماعة وأشكال اجتماعها. مع ذلك، ليس من دون دلالة امتناع أكثرية الكتّاب الشبان عن تناول شؤون بلدهم واقتصادهم وتاريخهم وسياستهم تناولاً مباشراً صريحاً. وإذا كان من العسير افتراض سبب واضح للامتناع هذا، فإن اليأس من تغيير الحال وغياب الأدوات القادرة على تحويل الرؤى النقدية إلى مشاريع واقعية، أو حتى إنتاج معرفة جديدة بلبنان وباللبنانيين وكيف تغيروا ويتغيرون منذ نحو عقد ونيف من أزمة وطنية كبرى، يبقيان (اليأس والغياب) من العلل التي تصيب كل محاولة تأليف بالشلل قبل الشروع بها.


نقطة تستدعي الانتباه: ليس نادراً أن يسمع المهتم بالشأن العام عن رسالة دكتوراه مهمة قدمها فلان إلى جامعة في الخارج أو بحث أكاديمي نُشر في مجلة أجنبية متخصصة. لكن فلاناً لا يكلف نفسه في الغالب عناء ترجمة رسالته أو بحثه إلى العربية فيبقى ما أنتجه محصوراً في دائرة أساتذته أو بضعة قراء. بكلمات ثانية، لا يجد هذا النوع من الإنتاج الثقافي طريقاً إلى التأثير في السجال العام، على ضحالة هذا السجال واحتكاره من قبل مداحي الطوائف وقادتها المتألهين. قد يطل الشعور باليأس واللاجدوى مجدداً هنا أيضاً، لكنه يعلن من جهة ثانية عن عداء المناخ العام في لبنان وبين أهله وحكامه لكل مسعى تقديم فهم جديد له من باب نقده وتفكيكه ووصفه – من دون مراوغة ومداورة - بما هو عليه من أوصاف.


وحال القراء هي بعض من أحوال الكتّاب. وإذا نحّينا جانباً الحاضرين حفلات التوقيع بدواعي الالتزام الحزبي أو الوظيفي أو التعليمي (كأن يكون شاري الكتاب من أعضاء حزب الكاتب أو موظفاً تحت إمرته أو طالباً من طلابه)، سنرى أن طالبي التواقيع لا تقل أعمارهم كثيراً عن أعمار الموقعين. لقد جمعت الكهولة ومبارحة الشباب الكاتب والقارئ وربما صاحب دار النشر والموزع وصاحب المكتبة، وانصرف الشباب إلى شؤون ليس بينها وبين الكتاب إلا مديح مجاني لهذا الأخير كواحد من علامات حنين إلى زمن جميل مضى لا صلة بينه وبين مادحيه إلا صلة الترحم على الأموات.


بداهة أن المسألة لا تكمن في عدد الكتب المبيعة ولا في ازدحام الحاضرين وضيق مواقف السيارات خارج المعرض، بل في الصعوبة المتفاقمة التي تواجهها عملية «عقلنة لبنان»، إذا جاز التعبير وفهمه ونقده كمقدمة لعقلنة طروحات التغيير السياسي وإخراجها من عالم الزجل والفولكلور (بالمعنى السيئ للكلمة).


لقاء العداء الواعي للثقافة الذي تبثه وتعممه قوى السياسة والريع، بالموجة العاتية التي أطلقتها منصات التواصل الاجتماعي كبديل عن كل الوسائط السابقة لها، بالتدهور العام في مستويات التعليم والمعيشة وسط غموض معاني الوطن والدولة والشعب وهيمنة ثقافات الهوية والانغلاق، جعلت من معرض الكتاب مضافة يستقبل فيها كهول كهولاً وهذا ما سيستمر في انتظار قضاء الله وقدره.