قبل مئة عام، تمّ وضع خريطة جديدة لمنطقة الشرق الأوسط، حيث أنشأت إتفاقية سايكس بيكو دولاً جديدة، قسّمت إرث السلطنة العثمانية، وفق المصالح الفرنسية البريطانية. وكان من المفترض أن لا تقتصر هذه الإتفاقية على تقسيم المنطقة العربية، إلّا أن انتفاضة مصطفى كمال أتاتورك جنّبت تركيا هذا المصير. في العام 2014 مُسحت هذه الحدود، مع ارتسام مشهد دولي جديد لم تنجل نهايته بعد؛ تختلف الظروف بين 1914 و2014 وإن تشابهت جغرافياً وحدثياً.

في الحرب العالمية الأولى، كانت خريطة التقسيم جاهزة وإن لم تطبق بحذافيرها، أما في الحرب على "الإرهاب" الحالية، فلا استراتيجية واضحة بعد؛ حيث يخوض التحالف الدولي حربه ضد تنظيم الدولة الإسلامية، في سوريا والعراق، بعد أن ألغى التنظيم الحدود القائمة بين البلدين. 

مع بدء الحرب على تنظيم الدولة، وفي ظلّ غياب آفاقها، بقي التنظيم على توسّعه، في العراق اقترب أكثر من بغداد، وتمدد في المحافظات الأخرى، وفي سوريا شمل توسعه من الشمال والشرق إلى الوسط. التحالف الدولي وجد نفسه أمام مأزق، فكانت كوباني "عين العرب" شمّاعةً أراد التحالف تعليق إنتصاره على الإرهاب فيها. بدأ تضخيم دور كوباني، وكأنه لم يسقط أكثر من 200 ألف ضحية في سوريا، ولم تهدم مدن وحضارات. ومع استمرار التنظيم في تقدّمه، كانت الولايات المتحدة تُحمّل تركيا مسؤولية منع هذا التقدّم. فتركيا اشترطت إسقاط نظام بشار الأسد، وإقامة منطقة عازلة للتدخل برياً، وإنقاذ كوباني.

تركيا تمارس دورها الإقليمي، في رسم سياسة المنطقة، والحصول على مكاسب واضحة من ناحية النفوذ والإقتصاد، لا سيما وأنها الوحيدة القادرة على إحداث تغيير فعال في موازين القوى القائم. وإنطلاقاً من ذلك، تُقدّم تركيا كل ما تستطيعه للمعارضة السورية؛ تدرّب الجيش الحرّ، وتأوي اللاجئين السوريين، كما أنها سمحت دخول مقاتلي البشمركة للدفاع عن كوباني، خصوصاً أنها على علاقة وثيقة مع إقليم كردستان العراق، ولكنها تريد في الوقت نفسه، التأكد من عدم استلحاق أكرادها في الأحلام القومية الوحدوية الكردية.

وبعيداً من كوباني، فإن تنظيم الدولة، ماضٍ في توسّعه السوري، وهذا يعيد طرح إشكالية نشوء هذا التنظيم وكيفية الإستثمار به من قبل دول عدّة. فلا شك أن الولايات المتحدة استفادت من وجود التنظيم، فأرغمت إيران على التنازل في العراق، واستثمرت ذلك في المفاوضات النووية. لكن الأحداث اليوم تمتد إلى كل الدول العربية، وتتخطى ذلك بكثير.

الهم الإستراتيجي الأميركي الثابت هو: استمرار السيطرة على منابع الطاقة. ولم يأتِ التدخل العسكري الأميركي، وإن جواً فقط، إلا بعد تهديد الأمن الإقتصادي العالمي، والمصالح الإستراتيجية الأميركية. أي بعد سيطرة تنظيم الدولة على المناطق النفطية.

قد يكون كلام الرئيس الأميركي باراك أوباما، قبل أشهرٍ، مفيداً في فهم ما يجري أو سيجري؛ فأوباما خلال تشخيصه للوضع الإقتصادي في الشرق الأوسط في أحد المؤتمرات الإقتصادية الدولية، انطلق من الوضع الإقتصادي المتردي في العراق، وحينها لخّص الأزمة بأن السنّة كانوا بعيدين عن الإقتصاد العالمي، مستخدماً مصطلح "الإقتصاد السنّي". ربما يوحي هذا الكلام بنشوء كيانات نفطية جديدة على أساس مذهبي.

وربطاً بذلك، تأتي سيطرة تنظيم الدولة، على أكبر حقلين للغاز في سوريا، ضمن السياق نفسه. اذ سيطر التنظيم مؤخراً على حقلي الشاعر وجحار في محافظة حمص وسط سوريا، مع الإشارة إلى أن هذه السيطرة أتت بعد انسحاب قوات النظام السوري منهما بشكل مريب. وهنا يبرز السؤال: هل سينسحب التنظيم من المناطق النفطية كالرقة ودير الزور بعدما ضربها التحالف، ويسلّمها له؟ في مقابل إطلاق يد التنظيم في المنطقة الوسطى، وبذلك تصبح المواجهة المذهبية هناك على أشدها، في إطار إعادة رسم الخرائط غير واضحة المعالم.

توحي الأمور وكأن هناك رسماً جديداً لخريطة الشرق الأوسط، ولكن ضمن حدود سايكس بيكو. فما سيتغير الآن هو الكيانات داخل هذه الحدود التي قد تأخذ أشكالاً مذهبية؛ فالعراق أصبح تقسيمه واضحاً بين الشيعة والسنة والأكراد، في حين لم تتوضح ملامح التقسيم في سوريا بعد، اليمن قد يعود يمنين، وليبيا تتجه أيضاً نحو التقسيم في ظل الحرب الدائرة فيها ضد "الإرهاب" والميليشيات.

 وكل هذا بالطبع لا ينفصل عن الحرب النفطية التي تشنها واشنطن والسعودية ضد موسكو وطهران، وتأتي في سياق المواجهة الشاملة في المنطقة العربية.