واجه أبناء "كوباني"، المدينة الكردية السورية القريبة جداً من الحدود مع تركيا، ببسالة وشجاعة والتزام مقاتلي تنظيم "داعش" عندما شنّوا عليها هجوماً عسكرياً واسعاً. وصمد هؤلاء في وجه "الغزاة" رغم عدم التكافؤ بين الاثنين في العدد والسلاح، ورغم "تطنيش" تركيا عن تقديم المساعدة أو على الأقل عن تسهيل وصولها وخصوصاً في المراحل الأولى للقتال، وذلك لأسباب عدة ليست كلها مُقنعة أو أخلاقية، ورغم تردُّد رئيس أميركا باراك أوباما في اتخاذ قرار يمنع اجتياح المدينة ويفوِّت على "الداعشيين" فرصة التلذذ بسبي نسائها وقتل رجالها وأطفالها والشيوخ. وهو تردّد صار صفة ملازمة لرئيس الدولة الأعظم في العالم اليوم على الأقل من ناحية القوة العسكرية والتطوّر التكنولوجي الذي سبقت الدول الكبرى كلها في مجاله. لكن في النهاية، وبعد أسابيع من القتال غير المتكافئ الذي مكّن "داعش" من دخول المدينة والسيطرة على بعض أحيائها، تخلّى سيد البيت الأبيض عن تردّده، وربما عن رفضه، وقرَّر، بعد التشاور مع أعضاء "التحالف الدولي لمكافحة الارهاب" الذي يتزعم، وكذلك بعد الضغط على تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان، إنزال مساعدات عسكرية لأكراد "كوباني" والموافقة على إرسال قوات من "البشمركة" الكردية العراقية اليها مع قوات من "الجيش السوري الحر" لمساعدة أهلها في الدفاع عنها. كيف حدث ذلك؟ وما الذي دفع أوباما إلى التخلّي عن تردّده؟ الجواب عن هذا السؤال تضمَّنه تقرير معلوماتي وضعه مركز أبحاث أميركي جدي جاء فيه أن معركة سياسية على جبهتين خاضتها هيئة الأركان العسكرية الأميركية المشتركة والقيادة العسكرية الوسطى هي التي أقنعت أوباما بالموافقة على مساعدة مقاتلي "كوباني". معركة الجبهة الأولى كانت داخل إدارته مع مسؤولين كبار فيها، منهم مستشارته للأمن القومي سوزان رايس ومساعد وزير الدفاع ديريك شوليه، عارضوا كلهم تزويد المقاتلين الأكراد في المدينة المحاصرة السلاح رغم اقتراب ذخيرتهم من النفاد ورغم حاجتهم إلى أسلحة نوعية من أجل تلافي الانهيار. لكن المخططين في وزارة الدفاع (البنتاغون) ربحوا المعركة وبدأت على الفور سلسلة مشاورات اميركية مع حكومة كردستان العراق وحكومة تركيا أدّت إلى الاتفاق على خطة المساعدة ونوعيتها. وتلافياً لأي التفاف على الاتفاق من رايس أو شوليه وغيرهما تمَّ تأمين السلاح الذي أُرسِل إلى كوباني من مستودعات "البشمركة" في شمال العراق. وجاء في التقرير أيضاً أن المعركة السياسية، التي جرت طبعاً بعيداً عن الأنظار، أغضبت هيئة الأركان الأميركية وضباطاً كباراً لأنها أخّرت امداد المدافعين عن "كوباني" المحاصرة بالأسلحة اللازمة، ولأنها في رأيهم لا تعكس على الاطلاق اولوية الإدارة الأميركية في سوريا والعراق في هذه المرحلة وهي إلحاق الهزيمة بـ"داعش". أما الحجج التي استعملها أنصار مساعدة المدينة المحاصرة من المسؤولين فيها، ومنهم وزير الدفاع تشاك هيغل ووزير الخارجية جون كيري، لإقناع المعارضين مثل رايس وشوليه ومندوبة أميركا في الأمم المتحدة سامنتا باور فكانت، واستناداً إلى التقرير نفسه، أن سقوط "كوباني" بالمجازر التي ستصيب أهلها سيكون لأوباما مثلما كانت "رواندا" التي سمح التردّد الأميركي في التدخل فيها بحصول عملية إبادة منتصف 1990. ومن شأن ذلك منع أوباما من الحصول على الشرعية التي يعمل لها، إذ إن سقوط "كوباني" سيبقى في ذاكرة العالم دليلاً ثابتاً على فشل سياسته الخارجية. أما الجبهة الثانية للمعركة، ودائماً استناداً إلى التقرير نفسه، فكانت مع الثنائي التركي رئيس الجمهورية أردوغان ورئيس الحكومة أوغلو. فهو كان، في رأي عدد واسع من القيادات العسكرية الأميركية الرفيعة، مع "داعش" في معركة "كوباني". وقد ظهر ذلك بقيام سلاح الجو التركي بغارات على أكراد بلاده ولكن في منطقة قريبة من حدودها مع سوريا. واثارت الغارات غضب أوباما فتمسك بخطة إنقاذ المدينة المحاصرة، وقرَّر حرمان تركيا من مقعد غير دائم في مجلس الأمن. وكانت ديبلوماسيتها ورئيسها اشتغلا بهدوء على مدى أشهر مع اعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة لإقناعهم بالتصويت لبلادها. وضمنا في حينه الحصول على الغالبية المطلوبة. لكن تحرّك واشنطن وعدد من حلفائها في أوروبا منع عودة تركيا المقعد الذي شغلته قبل سنتين. وفي الوقت نفسه قرر أوباما عدم التجاوب مع طلب أردوغان تسليم فتح الله غولن، المقيم في اميركا، إلى أنقره لمحاكمته على "دور" له في إثارة الشعب التركي ضده.