شكلت العملية العسكرية التي شنها الجيش اللبناني على المجموعات المسلحة المتطرفة المتحصنة في التبانة، نقطة مفصلية في تاريخ هذه المنطقة أعادتها أمنيا الى كنف الدولة ومؤسساتها الشرعية، وأحبطت مخططات كانت تعد لها باتقان لتحويلها حاضنة للارهاب، وتدمير ما صمد منها في حروب ومعارك سابقة، ولأخذ أهلها رهائن أو دفع بعضهم بالقوة الى معركة لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
وإذا كانت عملية التبانة لم تختلف في نتائجها الميدانية عن معارك مشابهة سابقة، سواء في أسواق طرابلس أو في مخيم البارد أو في عبرا أو في بحنين، لجهة تمكن رؤوس ومسؤولي المجموعات المسلحة من الفرار من أرض المعركة الى جهات مجهولة، فان ما قام به الجيش اللبناني أدى الى تدمير البنى التحتية للارهاب في المنطقة، الأمر الذي قد يؤسس الى مرحلة جديدة من الأمن والاستقرار يساعدها على النهوض اقتصاديا واجتماعيا، من شأنها أن تنعكس على طرابلس عموما، انطلاقا من التبانة التي كانت ولا تزال مفتاح الحرب والسلم في المدينة.
وبانتظار أن تعيد الدولة التبانة ومعها طرابلس الى كنفها إنمائيا، فقد كشفت العملية العسكرية، أن المنطقة التي التزمت بتطبيق الخطة الأمنية منذ نيسان الفائت من دون ضربة كف، وصبرت على إدخال أبنائها الى السجن، تعرضت لـ«كمين إرهابي» محكم يتمثل بعودة المجموعات المتطرفة إليها وتمددها ضمن أحيائها تحت مظلة شعارات سياسية ودينية لا يختلف عليها أحد من أبناء التبانة، وذلك بهدف جمع أكبر قدر من المؤيدين، لكن هذه المجموعات بقيت معزولة ولم تجد آذانا صاغية. ولعل إحجام أبناء المنطقة عن المشاركة في كثير من تحركات تلك المجموعات أكبر دليل على ذلك.
ثمة خلاصات عدة يمكن استنتاجها من معركتيّ الأسواق والتبانة أبرزها:
أولا، التأكيد على أن طرابلس ليست بيئة حاضنة لأي مجموعة إرهابية أو لأي أعمال مشبوهة يمكن أن تطال من هيبة الدولة. وقد ترجم ذلك بالاحتضان الشعبي الطرابلسي للمؤسسة العسكرية التي خاضت وحداتها معاركها في المدينة وقد أمنت ظهرها، وهو ما ساهم الى حد بعيد في تأمين الغطاء الشعبي لها قبل الغطاء السياسي، الأمر الذي ساهم في تعزيز ثقة الجيش بنفسه، وفي استعادة ثقة أبناء المدينة به.
ثانيا، الموقف السياسي المتقدم والموحد لمختلف التيارات السياسية والدينية والمدنية في طرابلس في دعم الجيش، والذي أسكت الأصوات النشاز التي حاولت قطع الطريق على الوحدات العسكرية بالتحريض المذهبي.
ثالثا، إن العمليتين العسكريتين قطعتا الطريق على كثير من المتربصين شرا بطرابلس لاستخدامها في مشاريع أمنية مشبوهة مستقبلا.
رابعا، إن ما قام به الجيش كان بمثابة الخطة الأمنية الحقيقية التي بات من الممكن أن تستكمل بحذافيرها في ظل تفكيك هذه المجموعات، ومصادرة كميات كبيرة من الأسلحة التي كانت تملكها.
خامسا، محاولة المجموعات المسلحة ضرب العصب الاقتصادي الرئيسي لطرابلس، عبر انتقالهم من التبانة ومحيطها الى الأسواق المملوكية لفتح المعركة الأولى مع الجيش، وذلك بهدف تدميرها وإفقاد المدينة هويتها، وأغلى ما تملكه من آثار تشكل متحفا حيا، على غرار ما حصل في أسواق مدن عربية أخرى، بما يمكنهم من عزل المدينة القديمة عن محيطها وربطها بمناطق أخرى قد تمتد من التبانة الى بحنين في المنية.
سادسا، إن المجموعات المسلحة لم تكن تخوض معاركها مع الجيش من تلقاء نفسها، وإنما تحت قيادة «جبهة النصرة» التي كانت تحركها، والتي لوّحت بورقة ذبح العسكريين المختطفين لديها للضغط على الجيش اللبناني.

كيف دخل الجيش الى التبانة؟ وكيف فرّ المسلحون؟

تقول المعطيات إن الجهود التي بذلها وزراء ونواب طرابلس و«هيئة علماء المسلمين» ومشايخ وفاعليات التبانة كان لها تأثيرات إيجابية عدة، لجهة إطلاق العسكري المختطف، ورفع الغطاء عن كل المجموعات المسلحة التي تواجه الجيش، وباعطاء هدنة إنسانية لاخراج المدنيين من التبانة.
وبدا واضحا من حجم النزوح الذي جاء بعشرات الآلاف من أبناء التبانة، أن ثمة قناعة لدى الجميع بأن الجيش لن يتهاون هذه المرة، وأنه ماض في استكمال عمليته العسكرية مهما كانت النتائج والتضحيات.
وقد ساهم ذلك في إحداث حالة رعب لدى المجموعات المسلحة التي استغل بعض عناصرها الهدنة للخروج مع المدنيين، وكان مصير بعضهم التوقيف من قبل الجيش وبينهم سوريون، فضلا عن شعور مسؤولي هذه المجموعات بأن خلو المناطق التي يتحصنون فيها من أهلها سيجعلهم لقمة سهلة للجيش الذي كان يعتمد على غزارة نيران غير مسبوقة.
وتشير المعطيات الى أن قيادة الجيش نفسها فوجئت بحجم النزوح الذي استمر حتى ساعات الفجر الأولى، ما دفعها الى تمديد فترة الهدنة، لتتحرك الآليات العسكرية مجددا عند الساعة الخامسة فجرا، وتسلك طريقها باتجاه ساحة الأسمر ومنها الى البيكادلي، والأهرام وستاركو، وسوق الخضار وصولا الى مصلى عبد الله بن مسعود، وذلك من دون أي مقاومة أو أي ظهور مسلح.
وقد اصطدمت الوحدات العسكرية بأكثر من عبوة ناسفة زنة كل منها عشرة كيلوغرامات من المواد الشديدة الانفجار ومجهزة للتفجير عن بعد، مزروعة في محيط سوق الخضار والمصلى، حيث سارعت فرق الهندسة الى تفكيك بعضها وتفجير بعضها الآخر.
وبعد التأكد من خلو المنطقة من المتفجرات، بدأ الجيش يسير دوريات راجلة في تلك الشوارع تمهيدا للقيام بالمداهمات، فدخلت الوحدات العسكرية مصلى بن مسعود، ومنازل أسامة منصور وشادي المولوي وطارق خياط وغيرهم من المسلحين، من دون العثور عليهم، وصادرت كميات من المتفجرات والقذائف الصاروخية والأسلحة الرشاشة والذخائر.
وتعرض الجيش خلال هذه المداهمات لاطلاق نار من أحد الأبنية المجاورة فتم اقتحامه وتوقيف شخصين سوريين كان بحوزتهما بنادق حربية وقناصة، كما عثر في المبنى نفسه على غرفة تستخدم لتصنيع العبوات المحلية الصغيرة.

الجيش ينفي التسوية

ونفت قيادة الجيش، في بيان لها، حصول أي تسوية مع هذه المجموعات، وقالت: كل ما قيل يدخل في إطار الاستغلال السياسي لبعض السياسيين المتضررين من نجاح الجيش السريع والحاسم في استئصال هذه المجموعات التي طالما أسرت مدينة طرابلس وعاثت فيها تخريبا. وستواصل وحدات الجيش، بعد أن تم تعزيزها باستقدام قوى جديدة، تنفيذ تدابيرها الأمنية، وتعقب بقايا المجموعات الإرهابية، ومداهمة المناطق المشبوهة كافة».
ودعت قيادة الجيش «فلول الجماعات المسلّحة الفارين، إلى تسليم أنفسهم للجيش اللبناني، الذي لن يتهاون في كشف مخابئهم أو يتراجع عن مطاردتهم حتى توقيفهم وسوقهم إلى العدالة، وتنبّه هؤلاء العناصر الذين باتوا معروفين لديها إلى أخذ العبرة ممّا حصل، حيث لا بيئة حاضنة لهم ولا غطاء للجميع سوى الدولة والقانون».
وفي بيان آخر أعلن الجيش أنه «بنتيجة العمليات العسكرية التي نفّذها اعتباراً من 24/10/2014 ولغاية تاريخه، بلغ عدد الموقوفين الإرهابيين لديه 162 موقوفاً، يجري التحقيق معهم بإشراف القضاء المختص».
من جهته، رأى النائب محمد الصفدي أنه «عندما اتخذت الحكومة اللبنانية قرار الحسم في مواجهة الإرهاب، سقطت الادعاءات المضلّلة وأثبتت طرابلس ومعها الشمال بأسره، ما كنا نعلنه ونؤمن به من أنه لا خيار لأهل طرابلس ولا مشروع لهم سوى مشروع الدولة اللبنانية. كما برهنت طرابلس أنها بيئة حاضنة للجيش وللقوى الأمنية الشرعية، على الرغم من بعض أصوات النشاز التي تصدر من هنا وهناك، وهي تخالف المزاج العام لأهل طرابلس وللسنّة عموماً». وإذ حيا الصفدي أرواح الشهداء من عسكريين ومدنيين، دعا الحكومة اللبنانية «لاستكمال قرار الحسم الأمني بوضع خطة اقتصادية ـ تنموية عاجلة لطرابلس وعكار والضنية والمنية، تهدف إلى إعادة إعمار المناطق المتضررة والمساعدة على إيجاد فرص عمل للشباب تنتشلهم من البطالة وشرورها».
ودعت «هيئة علماء المسلمين» الى تطبيق الخطة الأمنية في كل لبنان، مؤكدة أن الحل الأساسي لضبط مظاهر التشديد هو اعتماد العدالة والمساواة بين الجميع وعدم التفريق بين منطقة وأخرى وطائفة وأخرى.
وأكدت الهيئة أنها «لا تعرف أين المسلحين الذين ربما انسحبوا وغادروا أو اختبأوا»، لافتة الى أن لا تواصل بينها وبينهم، ومشددة على أن لا مصلحة لأحد في افتعال معارك مع الجيش لأنه ضامن السلم، ورأت أن تراجع العمليات العسكرية في طرابلس هو الذي حمى العسكريين، مؤكدة أن إيذاءهم ليس لمصلحة السنة ولا لبنان.