أين سيرغي لافروف؟ سؤال يطرح عربياً. أشهر مرّت وتغيب روسيا بشكل كبير عن المشهد العربي عموماً والسوري خصوصاً. يجوز السؤال طالما أن تصريحات لافروف بشأن سوريا كانت شبه يومية. لماذا هذا الإختفاء؟ أين روسيا؟ لم يتعوّد الشرق الأوسط على الغياب الروسي وإن كلامياً في ظروف كهذه، وفي ظلّ حمأة الحشد العسكري الدولي بإتجاه سوريا الحديقة الروسية الخلفية (التسمية الأحبّ إلى قلب موسكو)، والعراق. لا تقتصر الخسارة الروسية في المنطقة بل تشمل محيطها. تخسر روسيا عالمياً، تراجعت سورياً ليحلّ مكانها الإيراني، وتخسر أوكرانيا، كما تجري محاولة سحب أوراق القوة النفطية والغازيّة منها عبر عقد إتفاقات أطلسية مع الدول المشاطئة لبحر قزوين.


تبدو وريثة الإتحاد السوفياتي منهكة ومنهمكة، في لململة خيوطها الداخلية المبعثرة في وقت يعاد إنتاج نظام عالمي جديد، فها هي تغرق في أوكرانيا والقوقاز وتتحضّر لترتيب وضعها مع دول بحر قزوين خوفاً من تسجيل المزيد من الخسارات. بعض المعطيات يشير إلى أن "روسيا بوتين" طوّقت نفسها بنفسها، وقادتها سياسة التعجرف والقوّة الخاوية إلى الإنسحاب من المشهد العالمي.


لاشك أن لروسيا حضوراً قوّياً وبارزً، لكنّه تآكل مؤخّراً، فبعد حال من الإنسجام بين الولايات المتحدّة وروسيا الإتحادية، عاد الجفاء بقوّة، وعادت واشنطن لتطويق موسكو وتقويض نفوذها، فالعقوبات الأميركية الأوروبية المفروضة على روسيا هي الأعلى والأشد منذ سقوط الإتحاد السوفياتي. بدأ التدهور في العلاقات بعد الأزمة الأوكرانية والتعاطي الروسي العسكري لضم جزيرة القرم، لكن لا يمكن إغفال فشل السياسة الروسية في التعاطي مع الأزمة السورية عن تردّي هذه العلاقات، خصوصاً المقاربة الروسية للوضع السوري التي أجهضت كلّ الحلول.


في سوريا وإلى ما يقارب السنة كانت هناك مواءمة في المواقف الروسية الأميركية، حتّى أن الاميركيين قد فوّضوا الروس لحلّ الأزمة (جنيف1) لا سيما أن الولايات المتّحدة كانت تريد الإنسحاب من الشرق الأوسط وتتجّه إلى الباسيفيك لمواجهة الصين هناك، فشل الروس في سدّ الفراغ الأميركي، في وقت كانت إيران تحكم سيطرتها أكثر على الأرض، بدأت في ما بعد المفاوضات الأميركية الإيرانية فدخلت سوريا من ضمنها وهكذا سحب الملف من يد الروس الذين انشغلوا بالأزمة الأوكرانية، وأبرز دليل على ذلك إزاحة حلفاء روسيا من السلطة (إقالة نائب رئيس الوزراء قدري جميل رجل روسيا الأول في سوريا)، ومع إعلان الرئيس باراك أوباما عن استراتيجيته لمحاربة الإرهاب وبدء الضربات الجوية في سوريا والعراق تجّذر الغياب الروسي، ولم يحضر سوى تصريح يتيم للافروف معتبراً أن توجيه ضربات من دون موافقة مجلس الأمن يعتبر إنتهاكا للسيادة الدولية.


وقبل سوريا، خسرت روسيا في العراق إذ بعد سيطرة تنظيم داعش على الموصل زوّد الروس حكومة نوري المالكي بطائرات سوخوي في رسالة دعم له، لكن المفاوضات الإيرانية الأميركية أزاحت المالكي من دون أن تكون روسيا شريكاً في عملية التفاوض أو الحلّ، ليتآكل مرّة جديدة الدور الروسي في غير منطقة من الشرق الأوسط.


في أوكرانيا، تعاطى النظام الروسي بغطرسة توحي وكأنه الأشد قوّة على الساحة العالمية لكن بعد الإستفاقة من سكرة الجبروت وجدت موسكو نفسها شبه معزولة ومحاصرة بعقوبات إقتصادية تضيّق الخناق عليها، رغم ذلك يبقى في اليد الروسية أوراق قوّة كقطع الغاز عن دول أوروبا، وهنا يبرز الإتفاق الروسي ـ الأوكراني ـ الأوروبي الذي حصل قبل يومين حول تزويد روسيا لأوروبا بالغاز مع حلول الشتاء، على الرغم من استمرار العقوبات، فروسيا لا تستطيع المخاطرة أكثر في مواقف معاندة، لأن إقتصادها مهدّد وضاغط، وبموازاة ذلك تعزّز من تعاملاتها التجارية وصفقاتها الغازية مع الصين بمئات المليارات، وفي هذ السياق يأتي موقف بوتين الداعي إلى الإنسحاب من أوكرانيا.


وكما روسيا تتجه نحو الصين في علاقات تجارية إستراتيجية، كذلك تتجه أوروبا وأميركا إلى إيجاد بدائل عن مصادر الطاقة الروسية، إذ يتعزز التعاون الأميركي ـ الأوروبي مع أذربيجان مثلاً الغنية بالنفط والغاز التي تستطيع مدّ أوروبا بهما عبر أنابيب غير خاضعة لسيطرة موسكو عبر تركيا.


تجد روسيا نفسها محاصرة، لم تنفعها سياسة بوتين المعاندة، والمرتكزة على الشعبوية السوفياتية، خسرت في الشرق الأوسط، وتخسر في محيطها، وتترقّب الخطر الإسلامي المحدق بها في القوقاز بعد عودة الحركة الإسلامية الإنفصالية إلى الواجهة هناك. يملك الرئيس فلاديمير بوتين إمبراطورية مقلّمة الأظافر، أفلت من أصابعها الكثير من أوراق القوة، ولم يبق لها منها سوى آخر ما ورثته من أزمان سلفت وهو ورقة مكتوب عليها (فيتو) في مجلس الأمن، لا أحد يعرف مدى فعاليتها لا سيما حين يجدّ السعي الدولي إلى مبتغاه، تماماً كما جرى في حرب مكافحة الإرهاب الدائرة اليوم، والتي لم تمرّ في أروقة مجلس الأمن.


يقول البعض إن للروس باعاً طويلاً في حروبهم الباردة، وبعض آخر يقول إن روسيا بوتين تحوّلت إلى تاجر فاشل في الحسابات الدولية، والفصل بين هذين الرأيين هو للأيام المقبلة، وهنا لا بد من التذكير بالقول السائد في روسيا، بأن المهدد الأساس لها هي الليبرالية. هذه اليبرالية التي لم تحسن روسيا استخدامها فارتدت عليها.