في العالم العربي اليوم، نوع من التحسّر العارم على سقوط النظام الإقليمي للشرق الأوسط الذي وضعته بريطانيا وفرنسا بعد الحرب العالمية الأولى (سايكس وبيكو). ولا يعود ذلك في رأي باحث أميركي كبير الى اقتناع دول الغرب بعدالته، وبانتظام عمل الدول التي انبثقت منه. ذلك أنها تعرف أن اتفاق سايكس – بيكو أنتج دولا استبدادية، وأنشأ دولة اسرائيل فخلق بذلك عدم استقرار دائماً.
الا أن مَن يتحسَّر على سايكس – بيكو اليوم، بحسب اقتناع الباحث الأميركي الكبير نفسه، هو عدد من الدول الغربية وعدد من القادة والزعماء العرب الذين استنفدتهم أو استهلكتهم أو أرهقتهم منذ ثلاث سنوات وبضعة اشهر حماية أنظمتهم بعد بزوغ فجر "الربيع العربي"، الذي تحوّل لاحقاً دامياً وعنيفاً، أو محاربة التحدي الذي واجهته ولا تزال ممثَّلاً بالفوضى الداخلية والتظاهرات والاقتتال والبقاء على كراسي العروش والجمهوريات. فهؤلاء بدأوا يدركون اليوم أن النظام الإقليمي الذي فرضه الاستعمار عليهم يوما، والذي وضع لهم عدواً في قلب منطقتهم والذي انتقدوه في السر والعلن هو أكثر ملاءمة لهم كحكّام وكبلدان ودول من أي نظام اقليمي آخر لا بد أن تفرزه حروب "الربيع" التدميرية والتكفيرية والإلغائية. وهم يعون اليوم أن انهيار العراق وانهيار سوريا وانهيار ليبيا سيكون له تأثير اقليمي هائل، ولذلك فإنهم مصمّمون، على ما يبدو، على القيام بشيء ما أو على الأقل للتفكير بشيء ما يحول دون حصول هذا المحظور. هذا الأمر يسميه الباحث الأميركي الكبير الذي جال أخيراً على عدد من دول المنطقة التي تغمرها شمس الحروب الدموية لا شمس الحريات والاصلاحات وحقوق الانسان، يسميه "ثأر أو انتقام سايكس – بيكو" من كل الذين شتموه خلال قرن إلا سنوات قليلة، ولعنوا موقِّعيْه وعادوا دولَتَيْهما والدول التي ورثتهما محمّلينه مسؤولية الوضع المأسوي الذي عاشوه طيلة المدة المذكورة.
ماذا لاحظ الباحث نفسه في جولته المشار اليها إضافة الى "ترحُّم" غالبية قادة المنطقة وأنظمتها على النظام الإقليمي الذي بدأ بالانهيار قبل بزوغ شمس "الربيع العربي"؟
لاحظ أمراً مهماً جداً، وتناوله بجدّية ساخرة مماثلة لسخرية تناوله "النظام القديم"، وهو أن بعض العرب (قادة وزعماء ومفكرون وباحثون...) تعلَّم الدرس من واشنطن في عهد الرئيس باراك اوباما الذي بدأ قبل نحو ست سنوات. ذلك أنه تبنّى في حملته الانتخابية سياسة "القيادة من الخلف" أي ترك الدول الكبرى تتولّى مهمة التصدي لأزمات العالم ومشكلاته بالتفاهم معها. وتكون مهمتها هي القيادة من الخلف فترضي بذلك غرور شركائها الدوليين الطامحين دائماً الى الأدوار الكبيرة والى أمجاد الدول العظمى والى المكاسب الاقتصادية الكبرى لبلدانهم التي تؤمّنها "القيادة من الأمام". وبعد وصوله الى البيت الأبيض نفّذ هذه السياسة فانسحب من "الورطات" العسكرية لسلفه بوش في العراق ويتهيأ الآن للانسحاب من أفغانستان، وراح وخصوصاً منذ بزوغ فجر الربيع العربي يطالب الدول العربية بل حكامها وأنظمتها بدور قيادي لحل الأزمات التي تتراكم والحروب التي تنجم متعهداً مساعدتهم وحتى قيادتهم من الخلف. طبعاً واجه أوباماً فشلاً مع الدول الكبرى، لكنه على ما يبدو يواجه اليوم نجاحاً عربياً. فرسالته العام الماضي التي كانت: نريد لاعبين محليين ليحملوا عنا عبء حماية أمنهم، هذه الرسالة بدأت تلاقي القبول، وهي موضع تنفيذ من قِبَل عدد من الأنظمة في المنطقة. فمصر مثلاً تعمل على هذا الصعيد وفق برنامج أولويته الأولى سيناء والثانية ليبيا والثالثة "داعش". ورئيسها يعرف أن الخطر الذي قد يدهم بلاده من ليبيا كبير. لذلك فإنه قد يتحرك يوماً ضدها عسكرياً بالتعاون مع الجزائر و"بترخيص" أي موافقة من الاتحاد الإفريقي.
ومصر بذلك تمثّل الدول المسلمة في حربها مع الدول الإسلامية أو التي تشجع الإسلاميين المتطرّفين مثل تركيا وقطر وغيرهما. لكنها ليست وحدها في الحرب. فالإمارات العربية المتحدة معها في ذلك، ودول خليجية أخرى طبعاً ويعكس ذلك، في رأي الباحث نفسه، عدم وجود تعاون وثيق بين واشنطن والدول العربية المذكورة. وذلك مقلق لأن الأمور قد تفلت من بين الأيدي، علماً أن الواقع يشير الى أن "القيادة من الخلف" التي بشَّر بها أوباما قد تتم العودة عنها في وقت غير بعيد وخصوصاً في الشرق الأوسط.