جعل الله العلماء ملاذا للناس , وأمر سبحانه بالنفر لتحصيل العلم فقال : " وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " التوبة 122, والناس في حالات الخوف والقلق يرجعون الى العلماء وأهل العلم وعلى أهل العلم أن يكونوا الى جانب الناس ويبينوا لهم ويوضحوا لهم ما تعلموه من الحقائق ليطمئن الناس , قال تعالى " وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا " النساء .

لقد امر الله الناس بتحصيل العلم لخدمة الناس , وحذر من إستعماله لإذاعة الخوف بين الناس , فدور العالم هو تحصيل المعرفة لينذر الناس ويدلهم على ما فيه مصلحة لهم في الدنيا والاخرة , لا أن يَنشر بين الناس الخوف والرعب والاضاليل سواء بقصد أو بغير قصد , وما يفعل ذلك الا المنافقون , وهذه الاية قد نزلت بالمنافقين الذين كانوا ينشرون الاخبار والمعلومات بين الناس لتخويفهم , وكانوا إذغ سمعوا شيئا أفشوه قبل أن يقفوا على حقيقته .

فأهل العلم , وخاصة علماء الدين الذين نفروا لتحصيل العلم مهمتهم إنذار الناس بطُرق سليمة , وباساليب الحق والعدل , ولا يجوز أن ينشروا شيئا بين الناس قبل التحقق من أن الله يريده وان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاله , وينبغي ردّ كل شيء من أمور الدين الى الله ورسوله وأولي الامر عندما تقع الشبهات .

كانت جدلية رجال الدين ودورهم  قائمة منذ فجر الاسلام , وأشتدّت الجدلية في الساحة الشرعية مع تداخل الديني والسياسي , وليست القضية معاصرة , بل حفل التاريخ الاسلامي بنماذج من الصدام وأحيانا من الوئام بين رجال الدين والدولة " السلطة " , قلنا السطلة لان مفهوم الدولة المعاصر لم يكن موجودا تاريخيا , وتحديد موقف الدين من السياسة ليس حكرا على التاريخ الاسلامي , فهو نقاش تاريخي مرّ في كل العصور , وعاشته الحضارات , وناقشته الاديان السماوية كافة .

ما يعنينا هنا هو دور رجل الدين المسلم وموقفه من السلطة وعلاقته بالسطلة , والتفريق بين السلطة والسياسة .

إن الممارسة السياسية لرجال الدين تنطلق من تصورات تستند الى قواعد شرعية وأدلة تقول أن الخطاب الوعظي يتجسد بطريقة سياسية , لأن الواعظ يجد نفسه مضطرا للعمل بعقلية سياسية تحت ضغط الجماهير , فكثير من الاحيان يتحول الخطاب الدعوي تلقائيا  الى مشروع وعظي يعمل بادوات سياسية , فيبرر أصحاب هذا المنحى السياسي بأن التداخل بين الديني والسياسي هو الذي يفرض تحوّل الخطاب الوعظي الى خطاب سياسي وخاصة أن قيادة الناس تحتاج الى ادوات وطرق سياسية .

في الواقع أن المشكلة ليست بتداخل الديني والسياسي , إنما المشكلة في توظيف الديني لمصلحة السياسي , ويمكن القول أن نتائج هذا التوظيف برز تاريخيا في حُقب الوئام بين الدولة ورجال الدين , وكان بارزا إمكانية عدم التوظيف في حُقب الصدام بينهما . وكان رجال الدين في كل مرة يبرزون نصوصا وتأويلات تنسجم مع موقفهم من السلطة , وتكون على هيئة مواقف ومصالح منها ثابت ومنها متغير .

ويؤكد رجال الدين المنغمسون بالعمل السياسي , وخاصة العمل السياسي الحزبي , أن السياسة مرتبطة بمصالح الناس , وتدبير أمور الناس , وهم من هذا الجانب متمسكون بالعمل السياسي ويغلب على خطابهم الوعظي الاسلوب السياسي , فانغمسوا بالعمل السياسي على حساب العمل الوعظي المحض , وساعد على ذلك الفوضى في المجالات الدينية والسياسية والاجتماعية في العالمين العربي والاسلامي , فأنتجت هذه الفوضى مزجا غريبا بين الادوات السياسية وبين الادوات الشرعية , وألقت على الجماهير أعباءا , وعطلت فاعلية السياسة والدين , مما أدى الى في الفتاوى الموظفة سياسيا , وأنحرف دور رجال الدين في المجتمع , وتعطّل في أحيان كثيرة , وترك أثرا سلبيا كبيرا , وظهر هذا الاثر السلبي في توجهات دينية تخدم السيايين والسلطويين على أختلافهم توجهاتهم , ويبدو أن هذه الفوضى التي تحكم الواقع العربي تساعد على تأجيج الفتن المذهبية وتساعد على إرساء التخلف العربي والاسلامي .