تتفرغ قوى طائفية - سياسية لبنانية لتحريض جمهورها وتزويده بالكراهية والحقد اللازمين لجولة جديدة من الحرب الأهلية. وتسخّر لهذه الغاية وسائل إعلام ونواب ووزراء وكتاب.

 

 

تنتهي حملات التحريض اليومي إلى استنتاجات قاطعة تتضمن غالباً عبارة «لا حل إلا». «لا حل إلا بطرد اللاجئين السوريين». «لا حل إلا بالقضاء على بؤر الإرهاب في طرابلس وعرسال». «لا حل إلا بتسليح المسيحيين». «لا حل إلا بطرد حزب الله من الحياة السياسية». «لا حل إلا بإعادة النظر باتفاق الطائف». أما التصنيفات الجوهرانية فلا غنى عنها. فالشيعة عملاء إيران، والسّنة إرهابيون إلى أن يثبت العكس... إلخ

 

 

قطعية الخلاصات هذه ليست غير وصفة مضمونة لتفجير لبنان وإعادته إلى دائرة الحروب الأهلية. فما من جهة تملك اليوم ما يكفي من القوة والتأييد الداخلي والخارجي لتفرض رؤيتها وتصورها للحل. فلا يبقى من الأقوال المذكورة غير الجزء القائل «لا حل». فالمأزق اللبناني شامل ولا مخرج منه في المستقبل المنظور من دون تدخل خارجي لا تبدي أي من القوى المؤثرة رغبة في التورط فيه.

 

 

ترجمة التحريض الطائفي إلى أفعال، ليست بالسهولة التي يتخيلها البعض. فالجهات الواقفة وراء التحريض غالباً ما ترمي إلى تعزيز مواقعها الأهلية أكثر من إلحاق الهزيمة بخصوم تعرف أنهم لا يقلون عنها أصالة في الانتماء الطائفي، بل إن جميع المحرضين يتشاركون في الهيمنة على الدولة وتقاسم غنائمها من أدنى الإدارات إلى أعلى الوزارات. عليه، يمتنع المحرضون عن دفع الأمور إلى حدود الصدام المباشر المفتوح. تسميم أجواء البلد والقضاء على فرص التعايش بين مكوناته ليس بالأمر الذي يقض مضاجع هؤلاء.

 

 

ولا مانع من مناوشة هنا واعتداء على مجموعة من اللاجئين السوريين هناك، ما دام كل ذلك يساهم في «تأطير» الجمهور الذي يطالب «بالألعاب» على نحو ما كان فقراء روما يصرخون مطالبين بمشاهدة مباريات المصارعة وهم على حافة الموت جوعاً. وهنا دائماً من يتبرع بتشغيل «الألعاب» وتلبية طلب الجمهور الجائع والعاري، المحروم من أبسط الحقوق الإنسانية.

 

 

ضبط مستوى التحريض وسياقاته يشكل مهمة «نبيلة» تقوم بها قيادات الطوائف المسيسة. لضمان استمرار نهبها المنظم، من جهة، ولتجنب الإجابة عن سؤال أعمق يتعلق بصيغة السلطة والدولة والتعايش الطائفي من جهة ثانية.

 

 

ويعلم كل ذي نظر أن تحميل اللاجئين السوريين، على سبيل المثال، تبعات التوتر الأمني والأزمة الاقتصادية، ليس إلا الوجه الآخر لفشل «الدولة» في أداء الحد الأدنى من واجباتها بعدما بلغ شللها درجة تحول قيامها بأي عمل. ينطبق الأمر ذاته على الإثارة الدائمة لموضوع بؤر الإرهاب في مناطق بعينها، فهذا ليس غير تعمية على عجز الدولة عن معالجة مسألة السيادة التي يتحداها وجود جيش رديف لا يأتمر بأمرها ويقرر وحده (أو بأوامر مشغليه) أين يقاتل وأين يرسل جنوده ومن يهادن ومن يفاوض.

 

 

المخرج المنطقي من هذا الزقاق المسدود هو «الدولة» التي يود الجميع «العبور» إليها. لكنها دولة لا ملامح ولا تعريف لها. بكلمات ثانية، هي الوهم الذي يمكن تسويقه بصفته الخلاصية ويمكن في الوقت ذاته، الاستمرار في نهبه إلى ما شاء الله.

 

 

سيرافقنا التحريض بأنواعه، الغبي والمدروس والمجاني والمدفوع الثمن، ما دامت السياسة في هذه الأنحاء تقوم على خداع الناس وما دام أي إطار جامع ممنوع حتى اشعار آخر.