"يا ما قبلك ناس، حَبّو يجرَّبو"... مقطع من أغنية، يصلح رسالة إلى "داعش" ومن يقف وراءها، دعمًا وتأييدًا وتمويلًا وتسويقًا وتسهيلًا وتواطؤًا ومبايعة وغض نظر وبروباغاندا، ليس في ما ترتكبه من فظائع فكرية وعسكرية وإنسانية وحسب، بل وفي ما تحاول بثه في لبنان، لتسعير الفتنة بين مكوناته، خصوصًا في ملف العسكريين المخطوفين لديها، منذ معركة عرسال في 2 آب.

 

صحيح أن البيت اللبناني لم يكن مرة محصنًّا في وجه التدخلات الكثيرة التي كانت تستغل الشقوق والتصدعات في بنيانه، لتتسرب إلى داخله، فتقوى عليه بإثارة الفتن والحروب. وصحيح أيضًا أن حكامه وقادته لم يكونوا يومًا، أهلًا للقيادة، وللحكم ببصيرة ورؤية وبعد نظر، فانجروا إلى تلك الفتن عاجزين أو صاغرين أو جاهلين أو متواطئين، ولا هم لهم سوى كراسيهم.

 

لكن اللافت أن "داعش" ركبت الموجة نفسها، فلعبت على وتر ذاك التصدع البنيوي، وعلى وتر ذلك العجز في الحكم، كأن ثمة من دلها إلى نقاط الضعف تلك، وليس بين قادتها الأساسيين لبناني من ذوي الخبرة أو المعرفة أو الدراية بها. فإما هو جهة خارجية أو إقليمية متضلعة من قضايا لبنان، منذ زمن بعيد، وإما هو جهة لبنانية باعُها طويل في هذا المجال.

 

كل ما أتت به داعش من أفكار دينية، لا يقرها دين، ومن فتاوى لا يصدقها عقل، ومن ممارسات إجرامية إرهابية أين منها ممارسات هتلر وقبله هولاكو وتيمورلنك، ومن سلوك جنسي حيواني تفكيرًا وغريزة وممارسة، ومن مجازر ارتكبتها بدم بارد، ومن سلوك لا إنساني، ومن حملات وتغطية إعلامية مشبوهة المرامي والأهداف لتصرفاتها، لم يكن ليؤثر في الداخل اللبناني، ويمكن وضعه في كفة ميزان، حتى "استهدت" – ولعن الله من هداها – إلى ما يمكن أن يجره إلى الفوضى والاقتتال وانفلات الوضع من عقاله إلى ما لا تحمد عقباه.

 

"نجح" أوباش "داعش" في اختطاف جنود من الجيش اللبناني وعناصر من قوى الأمن الداخلي، خلال معركة عرسال، في 2 آب. أطلقوا بعضهم، ولعبوا بأعصاب اللبنانيين جميعًا في ما يتعلق بالبعض الآخر... إلى أن سلكوا المنطق الطائفي المناطقي، لعلهم يفلحون في تأجيج الساح اللبنانية التي بقيت، على الرغم من كل شيء، عاصية على الانجرار إلى مستنقع الدم والثأر.

 

لم أحسب يومًا ولم أعتقد أن هوية أي جندي لبناني، أو دينه أو مذهبه أو قريته، ليس سوى بزته المرقطة وأرزته وعلمه. لكن هناك من علَّم "داعش" أن تتصرف مع المخطوفين لديها بمذهبية وطائفية ومناطقية، علَّ ذلك يسعِّر الوضع في لبنان، احتجاجات وردود فعل، فينزلق لبنان إلى حرب داخلية، تنفذ منها تلك المنظومة الإرهابية إلى داخله، فتفجره، ليسهل عليها السيطرة عليه وضمه إلى "دولتها".

 

تحدَّت "داعش"، في خطابها، فئة لبنانية. فأطلقت مخطوفين لديها من مناطق ومذاهب معينة. ثم أحجمت عن إطلاق آخرين من مذهب آخر، احتجاجًا – قال – على مواقف لقياداته لم تعجبها. ثم شحذت السكين وحزت عنق جندي من طائفة تدعي الانتماء إليها، لتحرض أبناء تلك الطائفة على ترك الجيش اللبناني. ولما خاب ظنها، أعملت السكين نحرًا وتفظيعًا في عنق جندي من مذهب ومنطقة أخرى، لعل ردود فعل أهلهما تثير الفتنة الموعودة. والله أعلم ما خطوتها التالية.

 

الواضح أن هناك من يأخذ بيد "داعش" ويقودها إلى إشعال الساح اللبنانية. والأوضح أن عقلانية قيادات وبعد نظرها وحرصها على الوطن وبنيه، حالت جميعًا دون إنجاح مخططها، وأدت إلى وأده في مهده، على الرغم من هزال الموقف الرسمي، واستباحة الأرض اللبنانية، والتسبب باضطرابات وانعكاسات لم تلقَ الأذن المصغية، وفي ظني أنها لن تلقى.

 

والمطلوب اليوم، على الرغم من فداحة الموقف، أن تُجهض مخططات داعش ورعاتها الخارجيين والمحليين، مهما غلت التضحيات، ومهما طالعنا قابل الأيام من مفاجآت.

 

إنها معركة مصير، من أجل أن يبقى لبنان وطن تنوع وانفتاح. إنها معركة بقاء، في انتطار أن يصدق التحالف العالمي ضد إرهاب "داعش"، فيقضي عليه وعلى انفلاشه.

 

وفي الانتظار، فلتسقط كل الأسماء. لأننا كلنا اليوم عباس مدلج. وكلنا اليوم علي أحمد السيد.

 

وفي الانتظار أيضًا، فلتبادر الحكومة بتحصين الوحدة الوطنية الداخلية. وإلّا سِرنا واقفين ورؤوسنا مقطوعة، ذات اليمين وذات اليسار، إلى الذبح الإرادي الواعي.

 

جرَّب كثر فنون الفتنة في لبنان. لكن فنونهم لم تعد تنطلي على أحد. فهل من يجرؤ على تلقين الداعشيين البلديين درسًا لن ينسوه، بفضح رعاته الخارجيين والمحليين؟

 

قل لهم إننا كلنا جميعنا عباس وجميعنا علي. وقل لهم إننا جميعنا سنحيل كل من تدعوش في صبانا، وهو جزء منهم، على المحاكمة والعقاب، مهما طالت جولة الباطل، لأن ساعة الحقيقة قد دقت؟

 

عفو دمعك أبا علي. عفو نبلك أبا عباس. هيهات أن نستأهل أيًّا منهما. 

 

حبيب يونس