فجأة لم يعد العراق متروكا لايران وحدها. عادت اليه الولايات المتحدة من باب المساعدة على وقف تمدد تنظيم الدولة الاسلامية بعد سيطرته على الموصل ومدن عدة واقترابه من اربيل عاصمة كردستان العراق. فبات خبراؤها العسكريون يتزايدون دعما للاكراد وحماية للاقليات ودعما لعملية سياسية خرج بموجبها رئيس الوزراء نوري المالكي من المعادلة. ليس سهلا ولا بسيطا ان تعود الولايات المتحدة الى العراق ومعها دول الاتحاد الاوروبي التي سارعت الى ابداء الاستعداد لتسليح الاكراد انفراديا حتى ومن دون قرار جماعي اوروبي، فيما عمدت واشنطن الى تأمين توسيع التحالف الدولي الداعم لعودتها الى كل من كندا واوستراليا. واذا كان ثمة ما يمكن استخلاصه من كلام الرئيس الاميركي الى توماس فريدمان في الـ"نيويورك تايمز" الاسبوع الماضي لجهة "ان اكثر شيء يندم عليه في سياسته الخارجية" قوله "إن التدخل في ليبيا لمنع حدوث مجازر كان الشيء الصحيح الذي وجب القيام به. ولكن تنفيذه من دون متابعة كافية على الارض لادارة المرحلة الانتقالية نحو سياسات اكثر ديموقراطية هو على الارجح اكثر شيء يندم عليه في اطار سياسته الخارجية"، فان هذه الادارة لن تترك العراق مجددا من دون متابعة.

يفترض ذلك على الاقل من حيث المبدأ ضمان عدم وقوف العملية السياسية في العراق عند حدود تغيير الاسماء او استبدالها من دون تغيير السياسات التي تعيد للسنّة والاكراد اعتبارهم. يقول اوباما في الحديث نفسه عن العراق: "اذا كنا في طريقنا للتواصل مع القبائل السنية ومع الحكام والقادة المحليين، فعليهم ان يشعروا انهم يقاتلون من اجل شيء ما. لن نتمكن من دحر داعش الا لفترة محددة من الوقت ولكن بمجرد ان تنصرف طائراتنا سيعودون على الفور مرة اخرى". وكانت الادارة الاميركية واجهت انتقادات واسعة حول تركها العراق نهائيا بحيث لم تترك بضعة آلاف من الجنود على رغم ما دفعته من اثمان مادية وبشرية من اجل التأثير الضاغط على الحكومات التي تعاقبت برئاسة نوري المالكي مما اتاح المجال لايران لنشر نفوذها كليا وادارة العراق على نحو ادى به الى شفير الانقسام. باتت دول غربية عدة على استعداد راهنا من اجل مساعدة العراق وتقديم الاسلحة من اجل مواجهة تنظيم الدولة الاسلامية وتمددها واعادة بسط سلطة الدولة الذي سيكون صعبا اذا لم تحترم كل المكونات العراقية. ينهي هذا الواقع الجديد حصرية تحكّم ايران بالسياسة العراقية وان كان لا يضع نهاية له، وذلك نتيجة العوامل الجديدة التي دخلت على الخط. لكن ايران لا يمكنها انقاذ العراق وتدخلها فاقم ويفاقم اشتعال الحرب المذهبية بعدما ساهمت في الوصول الى ما اوصل حكم المالكي العراق اليه، ورهانها على المالكي كاد يطيح ليس بانجازاتها في العراق فحسب بل يهددها ضمن حدودها الداخلية ايضا. اميركا والمجموعة الدولية هما اللتان يمكنهما انقاذ العراق، وهما حضرتا بقوة في حين تبقيان مشتتتين في موضوع سوريا لجهة مد معارضيها بالاسلحة على غير ما سارعت اميركا والدول الغربية الى ابداء الاستعداد له في العراق. المسألة كأنما هناك قوات دولية لرعاية اخراج العراق من المأزق من دون قرار رسمي لا من مجلس الامن ولا من اي هيئة دولية.
يستغرق اعادة وضع العراق على السكة الصحيحة وقتا طويلا اذا سلمنا جدلا بان لا عقبات ستعترض هذا المسار، يقول مطلعون معنيون. لكن اللافت بالنسبة اليهم في استخلاصات اولية جملة امور، من بينها: اولا ان ما يحصل مع العراق سيكون له تداعياته في المنطقة على اكثر من مستوى. والبعض يتطلع من جانب الى امكانات التسوية الاقليمية بعدما بات العراق يهدد المنطقة ككل من دون استثناء والبعض الآخر يتطلع الى تداعيات للتسوية الاقليمية الدولية في العراق على سوريا في مرحلة لاحقة. ثانيا ان تنظيم الدولة الاسلامية الذي سيطر على المدن العراقية ذات الاغلبية السنية يمكن ان يعزز حضوره بقوة اكبر في سوريا. واذا كان العراق لم يقلع مع اهمال نسبة الثلث السني من المكونات العراقية فإن ما يجب التطلع اليه هو كيف يمكن ان تقلع سوريا مجددا اذا لم تؤخذ في الاعتبار نسبة 70 في المئة من السنة السوريين يرفضون النظام ولا يجري انصافهم سياسيا، خصوصا في ضوء تصاعد نفوذ تنظيم الدولة الاسلامية في سوريا كما في العراق. ثم انه مع تخلي ايران عن نوري المالكي سقطت نظرية ان من يفوز بغالبية في الانتخابات هو وحده من يحق له تسلم السلطة على نحو ما تذرع به المالكي في كل الوساطات الدولية الاميركية والايرانية وسواها التي اجريت معه من انه يرأس الكتلة النيابية الاكبر. في ظل مسؤوليته عن خراب العراق وعدم قدرته على رأب وحدته، جرى استبعاد المالكي. وهي نظرية يجب ان يتحسس منها الرئيس السوري بشار الاسد الذي اختبأ وراء ما سمي اعادة انتخابه للبقاء، في حين انه يستحيل عليه اعادة شمل بلاده. كما يجب ان يتحسس من هذه النظرية زعماء لبنانيون يقولون انهم الأحقّ برئاسة الجمهورية لامتلاكهم الكتلة النيابية الاكبر فيما لا يرى زعماء آخرون فيهم القدرة على توحيد البلاد وراءهم علما ان هؤلاء اسقطوا هذا المنطق بانفسهم في استبعاد الرئيس سعد الحريري عن رئاسة الحكومة قبل ثلاثة اعوام، وهو رئيس اكبر كتلة نيابية.