تحول الأمن في طرابلس الى "أحجية" يصعب على أبناء المدينة فك رموزها أو معرفة خفاياها، فلا السلم فيها يُبنى على مقومات واضحة، ولا الفلتان لديه أسبابه الموجبة، ولا التعاطي السياسي مع المدينة يسير وفق معيار واحد، بينما يجد الطرابلسيون أنفسهم أسرى بأيدي المتحكمين باللعبة الأمنية، ومدينتهم مجرد صندوق بريد يُفتح ويُغلق عندما تدعو الحاجة السياسية محليا أو إقليميا.

 

ولعل ما تضمنه بيان كتلة "المستقبل" أمس من انتقاد للخطة الأمنية، ومن وضع قيود لتحركات الجيش اللبناني ومن رسم خارطة طريق له في كيفية استكمال تنفيذ بنودها، وتزامن ذلك مع التوترات التي تشهدها المدينة، يشير الى أن أمرا ما طرأ على التوافق السياسي والأمني بشأن طرابلس قد لا يبشر بالخير.

 

لا أحد في طرابلس يعلم خلفيات نجاح الخطة الأمنية في المدينة واستمرار مفاعيلها ثلاثة أشهر منذ نيسان الفائت، ولا أحد يعلم خلفيات محاولات الانقلاب عليها من خلال إعادة التوتر الى الشوارع، ورفع منسوب الفوضى.

 

ولم يتبرع أي مسؤول سياسي أو أمني بشرح ما حصل أو ما يحصل أو ما قد يحصل في المستقبل القريب في العاصمة الثانية، في ظل سعي بعض الجهات الى تغيير وجه المدينة الحضاري وتاريخها، وضرب كل الانجازات التي تحققت في ظل الخطة الأمنية، وإعادة عقارب الساعة الى الوراء.

 

هذا الواقع جعل أبناء طرابلس يدركون بأن الأمن في مدينتهم يحصل بـ"كبسة زر"، وأن الفلتان ينطلق أيضا بـ"كبسة زر" ولا داعي لأي كان أن يدخل في التفاصيل أو معرفة خفايا ما يجري، وكأن أمن العاصمة الثانية موضوع على جهاز "ريموت كونترول" يتم التحكم فيه عن بعد.

 

في آذار الفائت، وبعد مضيّ ثلاث سنوات ونيف على الفلتان الأمني الذي انطلقت شرارته في "يوم الغضب" المستقبلي الشهير على قبول نجيب ميقاتي تكليفه برئاسة الحكومة، كان السلاح في طرابلس "زينة الرجال وللدفاع عن المال والعرض"، وكان رؤساء المجموعات المسلحة "أمراء" في مناطقهم ينفذون قوانينهم ويفرضون سطوتهم، فيما جبل محسن محصنا، وفيلا رفعت عيد فيه أشبه بسفارة، كان العلويون في طرابلس يواجهون بالرصاص على الأقدام، وكانت جولات العنف تتوالى، وكان الجيش اللبناني متهم بالانحياز محليا وإقليميا وتتم مواجهته في الشارع على وقع التكبيرات الصادرة عن مآذن المساجد، واستهدافه بالرصاص والقنابل والعبوات الناسفة، وكانت المخالفات تجتاح الشوارع، وأعلام تنظيم القاعدة تزين الشرفات، والاحتجاجات تعم الأحياء، والاعتداءات تطال الشاحنات السورية، والخوات تفرض على التجار، والخطابات النارية والتحريض المذهبي مادة أساسية على موائد السياسيين والمشايخ.

 

ومع دخول الأيام الأولى من نيسان الفائت وفي ظل حكومة المصلحة الوطنية برئاسة تمام سلام التي أعادت تيار "المستقبل" الى الحكم بالتوافق مع "حزب الله" وسائر المكونات السياسية الأخرى، انطلقت الخطة الأمنية في طرابلس، وبالرغم من انها جاءت مماثلة لخطط أمنية سابقة وضعت في عهد الحكومة الميقاتية ولم تثمر، لكن هذه الأخيرة فرضت الأمن وسحبت السلاح من الشوارع وصادر الجيش كميات منه وسط هدوء كامل وترحيب به قل نظيره. وفجأة رفع الغطاء السياسي عن قادة المحاور في التبانة وتفرقوا بين مطارد وسجين، وانهارت حصانة جبل محسن وفيلا رفعت عيد الذي فر مع قيادات حزبه أيضا الى سوريا، وأزيلت التحصينات والدشم بين المنطقتين وتلاقى الجيران بالعناق والقبلات وتخلوا عن إطلاق النار لمصلحة توزيع الحلوى، وتوقفت الاعتداءات على أنواعها، وأزيلت الصور وأعلام القاعدة وحلت بدلا منها أعلام الدول المشاركة في المونديال، ورفعت أكثرية المخالفات، وانكفأ السياسيون والتيارات الدينية عن التحريض وعن استخدام الشارع، وتوقفت الخوات، وانتظمت حياة المدينة وفُكت عزلتها، وعادت الحركة التجارية إليها.

 

لم يعرف أبناء طرابلس أسباب هذا التغيير الجذري الذي طرأ في ظل الخطة الأمنية، ولم يجدوا من يجيبهم عن سؤال محوري رددته المدينة بأكملها، وهو ما دام أن الأمن يمكن أن يُفرض بهذه البساطة، لماذا لم تنفذوا مثل هذه الخطة الأمنية منذ البداية للتوفير على طرابلس المزيد من الدماء والدمار والشهداء والجرحى والخراب؟.

 

لم يحصل الطرابلسيون على إجابة ترضي فضولهم، لكنهم ركنوا الى نتائج الخطة الأمنية وتعاملوا معها بايجابية تامة على قاعدة "أكل العنب.. لا قتل الناطور".

 

ولكن مرة جديدة، وبعد ثلاثة أشهر من الاستقرار الكلي، وجد الطرابلسيون أنفسهم أمام فلتان أمني يطل برأسه من جديد ومن دون أية تفسيرات أو مبررات، فالتحركات الشعبية عادت الى الشارع احتجاجا على استمرار توقيف من قاموا بتسليم أنفسهم أو من تم توقيفهم، والقنابل اليدوية عادت تدوي في أحياء المدينة، وبعضها جرى تخصيصه لاستهداف المقاهي التي تستقبل مفطرين، وعاد الجيش اللبناني الى دائرة الاستهداف والتحريض عليه، وظهر السلاح مجددا وتكررت الإشكالات الأمنية بين المواطنين، والحبل على الجرار.

 

كل ذلك حصل ب"كبسة زر" ومن دون أية أسباب موجبة. لكن اللافت أن الفلتان عاد الى طرابلس في ظل حكومة المصلحة الوطنية التي أطلقت الخطة الأمنية. فهل انتهى مفعول التوافق السياسي؟ وهل نعت كتلة "المستقبل" في بيانها أمس هذا التوافق؟ أم أن ثمة حسابات سياسية تريد تصفيتها مع الجيش قبل إنجاز الاستحقاق الرئاسي؟ أم أن طرابلس ستبقى "تنفيسة" لكل الاحتقان القائم؟ أم أن عليها أن تدفع ثمن الفراغ الرئاسي؟ أم أن ما يجري فيها عبارة عن تصفية حسابات محلية ضمن الفريق السياسي الواحد بفعل الصراعات المسيطرة عليه؟.