قد يكون غير واقعي ألاّ يتشاءم لبناني بحال بلده اليوم. ذاك أن انتحاريين يطرقون أبواب هذا البلد الضعيف، من أكثر من جهة. عبر المطار كحال انتحاري فندق الروشة، وعبر الحدود مع سورية كحال انتحاري ضهر البيدر. وربما جادت علينا أوضاعنا بانتحاريين محليين، على ما سبق وكشفت الوقائع.

 

«داعش» تتقدم في المنطقة كلها، فما هي، والحال هذه، احتمالاتها اللبنانية؟

 

في الإقليم، ثلاث مناطق (دول أو مشاريع دول) متشابهة لجهة قربها الجغرافي من «داعش»، ورغبة الأخيرة في استهدافها، وهي لبنان والأردن وكردستان العراق. لبنان شهد انطلاقة في النشاط الداعشي، كانت متعثرة، لكنها تنبئ باحتمالات التصعيد. جيرة «داعش» لكردستان العراق أشد تعقيداً من جيرة التنظيم الإرهابي للبنان. الموصل لا تبعد أكثر من 40 كيلومتراً عن أربيل، والعشائر التي أخضعتها «داعش» يتداخل سكنها مع سكن العشائر الكردية، ناهيك عن أن في «داعش» أيضاً عناصر كردية وأمراء أكراداً. لكن ليست القبضة الأمنية للبيشمركة وحدها، ما جنّب الإقليم غزوات «داعش» وانتحارييها، إنما أيضاً عجزها عن اختراق النسيج الاجتماعي الكردي. فالمقاتلون الأكراد في «داعش» نُخب سلفية، وليسوا امتداداً لانقسام سياسي أو اجتماعي أو طائفي أو مناطقي. ليست لـ «داعش» بؤرة اجتماعية تتحرك فيها داخل الإقليم الكردي، ونشاطها لا يُخاطب مزاج أحد هناك. وهي قد تنجح في اختراق الإجراءات الأمنية بسيارة مفخخة، كما جرى الشهر الفائت في أربيل، لكن ذلك لن يكون أكثر من اختراق موضعي تتعامل أجهزة الأمن مع الثغرات التي تسلل منها.

 

الأردن من جهته يملك حدوداً طويلة مع «داعش»، ومن بين مواطني المملكة مئات يقاتلون معها، ومن المقيمين هناك مؤيدون «جهاديون» لها تُقدر أعدادهم بأكثر من ثلاثة آلاف. لكن المملكة لم تُخترق بأي عمل أمني منذ 2006، عندما أقدم أبو مصعب الزرقاوي على تفجير الفنادق الثلاثة في عمان. وليس احترافية الأجهزة الأمنية الأردنية وحدها أيضاً ما حصّن المملكة، انما أيضاً عدم تمكن «داعش» من حجز مكان لها في الانقسام الاجتماعي والمناطقي الأردني. موضوعة «الجهاديين» في الأردن خارجية بالكامل، ولا يُمثل تيارهم نسبة تُذكر من عدد السكان، وهم كنخبة مقاتلة، لم يتمكنوا من التواصل مع الحساسيات المحلية، ناهيك عن أن خط الانقسام الداخلي لم يبلغ من العمق ما يُمكّن «داعش» من توظيفه.

 

إذاً هناك شرطان لاحتمالات اختراق «داعش»، الأول أمني والثاني سياسي اجتماعي. في العراق تحقق الشرطان فاحتلت «داعش» معظم الغرب ومساحات واسعة من الشمال والوسط. فساد الحكومة والأجهزة الأمنية والعسكرية من جهة، وشعور السنّة بالإقصاء من جهة أخرى.

 

أما لبنان، فالشرط الأمني فيه لا يبدو هشاً على ما كشفت الوقائع الأخيرة، ذاك أن العمليات التي نُفذت في الأسابيع الأخيرة كُشفت كلها، ويبدو أن جهداً أمنياً تُشارك فيه أجهزة أمن دولية وراء هذه الإنجازات.

 

إذاً يبقى الشرط الثاني، والمتمثل في الانقسام المذهبي الذي يمكن «داعش» أن تستثمر فيه. ولا بد هنا من استحضار الطائفة السنية بصفتها مركز طموح «داعش». فالحاجة اللبنانية إلى موقف سنّي حاسم في الانحياز ضد «داعش» ملحّة اليوم. والاكتفاء بدعوة «حزب الله» للعودة من سورية لم يعد كافياً. فلا شك في أن لمشاركة الحزب في القتال إلى جانب النظام السوري دوراً مسهلاً لوصول «داعش» إلى بلادنا، لكن الاكتفاء بهذه الدعوة لمكافحة «داعش» تغاضٍ عن حقيقة أن الشقاق اللبناني ينطوي على احتمالات داعشية. فقبل أيام قليلة مثلاً أقدمت «هيئة العلماء المسلمين» على تحريم الانتماء الى «سرايا المقاومة»، وهي ميليشيا سنّية صيداوية أنشأها «حزب الله» ويُقاتل أفراد منها في سورية، وهذا التحريم لم يشمل الانتماء الى «داعش» أو الى جماعات تكفيرية موازية. هذا ليس مؤشراً مطمئناً.

 

من الواضح أن «حزب الله» فهم معادلة الاحتمالات الداعشية ويحاول التعامل معها بما هو متاح أمامه. الانسحاب من القتال في سورية ليس بمتناول القيادة اللبنانية للحزب، فهذه وظيفة يؤديها الحزب لسيده الايراني، لكن الحزب أحدث بقبوله التشكيلة الحكومية الأخيرة انفراجاً سنياً محدوداً انعكس على نحو سريع على المستوى الأمني. أما القول بأن «انتصارات» الحزب في القلمون هي ما أدى الى وقف التفجيرات، فكذبته تفجيرات الأسبوع الفائت.

 

لا يُمكن الجهد الأمني وحده أن يُنجز مهمة التصدي لـ «داعش»، فللتنظيم قدرات غير متوقعة ولا يُمكنه استخدامها من دون وجود حاضنة محبطة ومُستهدفة. الطائفة السنية قد تكون أكثر من نصف لبنان اذا أضفنا إليها اللاجئين السوريين والفلسطينيين. وبؤر الوهن والإحباط في أوساطها كثيرة واحتمالات الاستثمار قائمة.

 

مسؤولية تيار «المستقبل» هنا كبيرة، فهو الحاضنة السياسية للسنّة اللبنانيين اليوم، ومن الواضح أن «المستقبل» طرف أساسي في ما أنجز حتى الآن، لكن ضفاف البحيرة السنّية اللبنانية مترامية ولا يمكن طرفاً أن يحيط بها.

 

إذاً «داعش» تقيم في هذين الخللين. قتال «حزب الله» في سورية، وضعف الحساسية السنّية حيال هذا النموذج الجديد. وانعدام القدرة على مواجهة هذين الخللين يتم حتى الآن بالمداراة. «حزب الله» الذي يعرف تماماً أن لقتاله في سورية ارتدادات داعشية قرر ممارسة التقية على وظيفته السورية. يدفن قتلاه بأقل قدر ممكن من الضجيج، ويتكتم على حجم مشاركته، التي يبدو أنها كبيرة، وهي وظيفته الوحيدة هذه الأيام، ويُحدث بعض الانفراج عبر هدنة مع «المستقبل». يحصل ذلك في مقابل تكتم موازٍ، ذاك أن «داعش» خلفت مشاعر «انتصار» ونشوة في صدور الكثيرين من المحبطين السنّة، وهو أمر مسكوت عنه، لكنه ما زال غير كافٍ لأن يُوظف.

 

ثمة هدنة سياسية وطائفية قد لا تخدم «داعش»، لكنها هدنة هشة وغير حقيقية، والتنظيم الإرهابي يعرف أن له مكاناً فيها. واذا كان كل من الأردن وكردستان جزءاً من تحالف دولي لا تربطه علاقات مودة مع النظام في سورية، فإن سلطات البلدين لا تشارك في القتال في سورية ولا تسهله، وهي أرست أنواعاً من الهُدن مع النظام وظيفتها بالدرجة الأولى تحصين أمن البلدين.

 

لبنان يُقاتل في سورية. من هنا تبدأ حكاية «داعش» اللبنانية.