يعدّ المفكّر الإسلاميّ محمَّد حسين فضل الله، أحد أهمّ المراجع الدينيَّة في عالمنا العربيّ والإسلاميّ، الَّتي خرجت عن إسار التّوصيف الطّائفي، وغدت علامة على الهويّة الجامعة لعموم المسلمين، بل إنّه تمكّن من تجاوز الحالة الفقهيَّة الَّتي ميّزت كثيراً من المرجعيات العلمائيّة، ليغدو منظّراً للحراك السّياسيّ الإسلاميّ، وداعية للعمل المنظّم والممنهج نحو التغيير الإسلامي المنشود.

وإذ يعترف فضل الله بخصوصية الواقع زماناً ومكاناً، فإنه يطالب الأحزاب والحركات الإسلاميَّة بالعمل في إطار الدائرة الإسلاميَّة الأوسع، دونما تنكّر بالضّرورة للانتماءات ذات الطّابع القوميّ والإقليميّ (القطري)، وهو في دعوته هذه، يقدّم مثالاً يحتذى، حيث لم يتخندق خلف الهويَّة الوطنية اللبنانية، ولم يحصر همّه بالمسألة الشيعيَّة، كما لم يعزل نفسه عن الأحزاب السياسيَّة والحركات الإسلاميَّة، الَّتي استفادت كثيراً من طروحاته وأفكاره، ولا يزال منهجه في التّعامل مع الواقع السياسي منهلاً يغترف منه قادة العمل الإسلاميّ في منطقتنا العربيّة.

تصدّى فضل الله منذ وقت مبكر للجدل الَّذي رافق نشأة حزب الله في لبنان، وحاول أن يجمع في تقييمه للحزب ولمجمل النّشاط الإسلاميّ في لبنان بين فكرة الحزب السياسي، وفكرة الحزب الأشمل الّذي اكتنف مسار تجربة حزب الله، ورأى أنه بالإمكان الجمع بين الأسلوبين في العمل الإسلامي، مع الاستفادة من التجربتين في العراق وإيران.

كما نبّه في هذا السياق إلى خطورة استلهام تجربة ما ونقلها إلى واقع مختلف دون مراعاة خصائص هذا الواقع، مدللاً بالموقف العاطفي (في الوسط الشيعي)، إزاء تجربة الدولة الإسلاميّة في إيران، التي يرى البعض أن توجيه النقد إليها يعد خروجاً على الخط الإسلامي، وتجاوزاً للحدود الشرعيّة، وهذا ما لا يقبل به العلامة فضل الله.

وفي مواجهة طغيان العاطفة كإشكاليّة تصاحب أداء الحركة الإسلاميّة، يدعو فضل الله إلى تغليب العقل والعقلانية، أو بمعنى آخر أن "تعطي العاطفة جرعة من العقل، كما تعطي العقل جرعة من العاطفة، ليكون هذا الكيان الإنساني الَّذي تتآخى فيه العاطفة مع العقل". وما أحوج الحركات الإسلامية ودعاتها اليوم إلى هذا التوازن الدقيق بين العاطفة والعقلانية، فقد أدى طغيان الأولى إلى انحرافات سلوكية صبغت الإسلام بصبغة التطرف والإرهاب!

لا يبخل فضل الله في تقديم النّصح والمشورة لكلّ الحركيين في المجال الإسلاميّ. ومن يتمعّن في توصياته، يجدها صالحة لمختلف أنواع العمل المنظّم، سياسيّاً كان أو إداريّاً. وبغضّ النّظر عن مرجعيّة هذا العمل، فهو يدعو مثلاً إلى التعامل الواقعي والموضوعي مع الأشياء، حتى لا نجد أنفسنا على حافة التهوّر والضّياع، ونفقد الكثير من الفرص المتاحة من أجل التقدّم خطوة إلى الأمام في عمليّة التغيير.

إضافةً إلى ذلك، لا ينصح المفكّر فضل الله بانغلاق الحركة السياسيّة، ويحذّر من عدم انفتاحها على الآخر، حتى وإن كان الآخر هنا هو المجتمع الدولي نفسه، شرط ألا يكون الانفتاح مدخلاً للذوبان في الآخر. وما عدا ذلك، فإن "الإنسان الذي يرفض الانفتاح على الآخرين هو إنسان ضعيف، والإسلاميون لا يمكن أن يكونوا ضعفاء".

وفي مجال الحراك اليومي، لا يغفل فضل الله عن الوقت وأهمية الزمن في تحقيق الأهداف، وهي نقطة لا تتنبه إليها معظم الأحزاب والتّنظيمات؛ ففي بعض المواطن، تتطلب عمليَّة تحقيق الهدف النهائي مسابقة الزمن، بينما في بعض الحالات، يتطلّب الأمر شيئاً من التريّث، فتأخذ الجماعة وقتها حتى ينضج المشروع، وتستطيع تحريكه نحو تحقيق الهدف.

هكذا، فإنَّ العمل في الحقل السياسيّ، وإن كان ذا مرجعية إسلاميَّة، يتطلّب الأخذ بالأساليب العلمية في التنظيم والتخطيط، ومراعاة ظروف الواقع والزمن، وكلّها عوامل تطرق إليها فضل الله في حوار مطوّل ومعمّق منشور في كتاب "صراع الإرادات"، لمؤلّفه سليم الحسني. وفي الحوار المنشور المزيد لمن يرغب في الاطلاع على الفكر الحركي للسيّد محمّد حسين فضل الله.

وسبق للسيّد فضل الله أن تناول مشكلة المرجعيّات الدينيّة الَّتي لا تمتلك ذهنيَّة منفتحة إزاء الواقع الذي يعيشه المسلمون في كلّ قضاياهم ومشاكلهم الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، داعياً إلى ضرورة الجمع بين فردية المرجعيّة والعمل المؤسَّساتي، بما يحويه من خبرات وكفاءات في متابعة القضايا واستيعابها، والتّعامل مع مستجداتها.

ولفضل الله فضل آخر، حيث قدَّم تصوراً للتعامل مع المشكلة المذهبيّة، داعياً إلى نقل الاختلاف السني/الشيعي من الحالة الشعورية والعاطفية إلى الحالة الفكرية، التي تضع الخطوط العامة للوفاق، وتدرس الخطوط التفصيليَّة للخلاف بعقليَّة إسلاميَّة علميَّة. ثم يقترح بعد ذلك العمل في اتجاهين: تعميق حالة الوفاق ووسائله بين عموم المسلمين، ثم تثقيف المسلمين بإمكانية التعايش فيما بينهم كسنة وشيعة.

لكن من يلحظ اليوم تداعيات الصّراع المذهبي، يأسى للانحراف الكبير الذي وصلت إليه بعض الجماعات، ودرجة التطرف والإرهاب التي بلغتها، وباتت تتهدّد معظم الدول العربيَّة، ما يؤكّد أن المسألة خرجت حتى من سياق العاطفة المتعصّبة، فأنى لمثل هذه الجماعات أن تستجيب لصوت العقل، وتفقه طروحات مفكّر إسلامي كبير بحجم السيّد محمّد حسين فضل الله، وقد أضحت سلوكياتها تشكل انحرافاً عن الفطرة الإنسانية السوية؟

بينات