من معالم الانسداد التاريخي في معظم العالم الإسلامي أن الإمبراطوريات إذ تنهار، أو تُستنزف، فإن ذلك لا يحصل إلا على أيدي جهاديين وتكفيريين.
هذه القاعدة استعرضت نفسها في الثمانينات، حين بدأ استنزاف الإمبراطورية السوفياتية في أفغانستان، وهو ما شكل عاملاً أساسياً من عوامل انهيار الإمبراطورية المذكورة بعد سنوات قليلة. لكن المجاهدين الأفغان من أتباع حكمتيار وشاه مسعود كانوا هم من نفذ تلك المهمة، وهم مَن فاض عداؤهم للشيوعية بحيث غدا عداءً لكل ما يرمز إلى تقدم أو تحديث أو مساواة جندرية.
ويحصل ذلك اليوم، إذ يبدو أن المشروع الإمبراطوري الإيراني يتعرض لتحدٍ يهزه هزاً، رأسُ حربته تنظيم «داعش» في العراق وسورية، فضلاً عن قوى سورية وعراقية أخرى قد لا تفضل «داعش» لا في وعيه ولا في سلوكه، وقد تفوقه عداءً لإيران ونفوذها.
وفي رأي البعض أن من السابق لأوانه الكلام على تصدع المشروع الإيراني، خصوصاً أن محللين كثيرين يفضلون الحديث عن إفادة إيرانية من الحرب على الإرهاب وعن تنازلات غربية لطهران بالتالي. مع هذا، يُلاحَظ أن إيران المسنودة بعراق موحد ذي قيادة شيعية، وبسورية ذات نظام متماسك يقيم بشار الأسد في ذروته، غير إيران المطالَبَة هي نفسها بتقديم الدعم لحليفين متداعيين في بغداد ودمشق. وهذا ما قد تظهر آثاره بعد سنوات قليلة، وربما قبل ذلك، وهي قد تتخذ شكل التصدع في مشروع إمبراطوري لن يستطيع أحد إنجاده.
على أية حال فانهيار الإمبراطوريات ومشاريعها يبقى حدثاً إيجابياً ضخماً من حيث المبدأ. فالإمبراطورية، في زمن الدول – الأمم، «رجل مريض» تعريفاً، حتى حين يكون مرضه مؤجل الانتشار. بيد أن فاعلي ذاك الانهيار في ربوعنا إنما يحدون بطبيعتهم من إيجابية ذاك الحدث، كاشفين عن الأزمة العميقة التي تعيشها مجتمعاتنا من حيث قدرتها على إنتاج قوى تكون حديثة وشعبية في آن. وهذا ما يمنع الدول من وراثة الإمبراطوريات، مكلفاً القوى الأنتي دولتية، إن لم نقل الهمجية، بالوراثة هذه.
يزيد في تظهير المشكلة أننا كنا عرفنا، أوائل القرن الماضي، انهياراً امبراطورياً كاملاً هو الذي أطاح السلطنة العثمانية وطرح توزيع أراضيها في أوعية سياسية ودستورية أخرى. إلا أن الدول الأوروبية كانت الطرف الذي هُرع يومذاك إلى لم شمل المنطقة من خلال انتداباتها عليها. هكذا قُطع الطريق على أمثال عودة أبو تايه والزاحفين من بواديهم على دمشق لكي يبدأوا قبل مائة عام ما أخرته الانتدابات مائةَ عام. يومها كان لا بد أن يتنكر البريطانيون والفرنسيون لوعودهم المقطوعة للشريف حسين ونجله فيصل الذي أبدى عجزه عن سوس دمشق، لأن الوفاء بتلك الوعود كان ليعني ولادة «داعش»، أو ما يعادله، في 1918.
وهذا كله ولى، فلم يبق من الاستعمار الأوروبي إلا ذكريات الأشباح أو أشباح الذكريات. أما في ظل قيادة أميركية مرتبكة ومنسحبة، فسوف يتعاظم الإلحاح على دور شعوب المنطقة، فيما يعيش معنا إلى مدى زمني طويل ذاك السؤال الحارق: كيف يصار إلى تفكيك المشاريع الإمبراطورية الصغرى أو الكبرى، التي نحضنها أو التي نجاورها، بأدوات تكون أرقى منها وتستطيع أن تنقلنا إلى دول وأنظمة مستقرة يحكمها القانون؟ والحال أن الباحثين عن إجابات لا يكتمون تعثرهم بهذا الانسداد الكبير الذي يملأ الأفق.