مع الحراك الذي أطلقه «داعش» في العراق، سلك الشرق الأوسط اتّجاهاً حقيقياً نحو مخاطر التقسيم، للمرّة الأولى منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى. فهل طريق التقسيم مفتوحة؟ وكيف تنظر القوى الإقليمية إليه: مَن يشجّعه، مَن يقبل به خياراً اضطرارياً، ومَن يحاربُه؟

تقليدياً، هناك اقتناعٌ يزداد رسوخاً بأنّ الإسرائيليين هم المحرِّك الأساسي لمشروع تاريخي يرمي إلى تقسيم الشرق الأوسط، لتحقيق هدفين:

1- إغراق المنطقة في صراعات دموية بين المجمشوعات المختلفة طائفياً ومذهبياً وعرقياً، بما يؤدي في النهاية إلى نشوء كيانات ضعيفة متناحرة، هي بينها الكيان الديني - «القومي» الجبّار الوحيد.

2- الإفادة من هذا الواقع لحلّ أزمة إسرائيل التاريخية، أي تصفية القضية الفلسطينية، بشرذمة الفلسطينيين جغرافياً وديموغرافياً.

في المقابل، القوى الإقليمية الأخرى تتفاوت نظرتها إلى التقسيم: فإيران تفضّل السيطرة على كامل العراق وسوريا ولبنان من خلال مثلّث المالكي - الأسد - «حزب الله»، لكنّها بالتأكيد تصبح مع التقسيم إذا تعرّض هذا الثلاثي للتهديد. فالسيطرة على الجزء أفضل من فقدان الكلّ. وثمّة اعتقاد بأنّ إيران تريد إضعاف السعودية والدخول إلى مناطقها الشرقية، حيث هناك وجود شيعي وآبار النفط.

أمّا تركيا فتخشى أن يؤدّي التقسيم إلى انهيار كيانها (الأكراد والعلويّون). لكنّها تغامر بلعب أوراق للسيطرة واستعادة حلم السلطنة العثمانية. وهذه مغامرة كبرى ينخرط فيها رئيس الوزراء رجَب طيّب أردوغان الذي يريد إضعاف السعودية عن طريق إغراقها في المستنقع العراقي، انتقاماً لدورها في إفشال مخطّطها الإسلامي في المنطقة. وهو يختلف في ذلك مع الرئيس عبدالله غول ووزير الخارجية أحمد داود أوغلو.

وهناك شبهات في أنّ «داعش» تتلقّى دعماً ماليّاً من أطراف في تركيا وإيران والولايات المتحدة، وشخصيات سلفية من معظم الدول الإسلامية. أمّا قطر فدعمت «داعش» في سوريا حتى صيف 2013.

وفي تقدير المتابعين، يستحيل أن يفعل الأكراد ما فعلوه في مناطقهم العراقية والسورية بلا موافقة تركيا وإيران والولايات المتحدة. والذين يعرفون الواقع الكردي جيّداً، يُدركون أنّ الأكراد أنهوا مراحل بناء كيانهم جغرافيّاً على الأقلّ. وهم يعلمون بأنّ الآخرين سيتبعونهم في رسم حدود كياناتهم عاجلاً أم آجلاً.

وثمّة اعتقادٌ بأنّ الأكراد بدأوا ممارسة سياسة ذكيّة من خلال القول إنّهم في صدد بناء كيان كردي في كلّ من العراق وسوريا، وإنّهم لا يريدون أن يتجاوزوا ذلك بإقامة كيانين في كلّ من تركيا وإيران، أي أنّهم لا يرغبون في بناء دولة كردستان العظمى. وهذا ما يتيح لهم العمل في هدوء، وبلا إخافة أنقرة وطهران واستنفارهما ضد الأكراد. ويكفي التأمل في كيفية دخول الأكراد كركوك بعد يوم واحد من سيطرة «داعش» عليها، وإعادة تشغيل خط النفط طبيعياً.

في المقابل، القوّة التي بدأت حرباً علنية ضد تقسيم الشرق الأوسط هي روسيا. فأيّ تقسيم سيُهدّد ترابَها الوطني (خصوصاً الشيشان والشعوب المسلمة الأخرى)، وهي لذلك استنفرَت السعودية ومصر لمحاربة التقسيم.

وفي معلومات ديبلوماسية أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أرسل إلى الملك السعودي عبدالله بن عبد العزيز، ثلاث رسائل سرّية سُلّمت إليه عبر مبعوثين في المغرب، بعد ساعات من تحرّك «داعش» يلفت فيها إلى خطورة امتداد الاقتتال الطائفي، وخصوصاً بعد دعوة المرجعيات الشيعية الشباب الشيعي إلى الالتحاق بجبهات القتال، وما قد يتبعها من احتقان مذهبي. وأبلغَ بوتين القيادة السعودية بما توافر من معلومات إستخبارية تكشف أنّ هناك مخططاً لدفع السعودية إلى الغرق في المستنقع العراقي.

وبناءً على ذلك، فتحَ الملك سُبل التعاون مع موسكو، ولكن عبر مصر، لتعزيز دورها ودور رئيسها الجديد عبد الفتّاح السيسي، ولعدم توريط القوات السعودية خارج الخليج في هذه الفترة. وهو شجّع زيارة الملك السعودي إلى السيسي الذي زار موسكو قبل أسابيع، وهو يحظى بدعمها ليكون عنصر توازن إقليميّاً. فالسعودية وروسيا تختلفان على الكثير، لكنّهما تتوافقان في مصر.

وأرسلَ بوتين وزير خارجيته سيرغي لافروف إلى المملكة. والأبرز كان لقاءه المطوّل مع قائد الحرس الوطني الأمير متعب بن عبدلله الذي طرح على ضيفه عدداً من الأفكار، من وحي الرسائل التي وجَّهها بوتين.

وفي النتيجة، وفق المعلومات، وافقت السعودية على خطّة مصرية - روسيّة مشتركة لمشروعين للحلّ السياسي في سوريا والعراق، يقومان على تطوير النظام السياسي في كليهما.

ومن ثمار القمّة السعودية - المصرية في القاهرة وزيارة لافروف للرياض، تمّ التوافق مبدئياً، على إنشاء قوات مصرية - سعودية مشتركة، تضمّ 50 ألف رجل، بتسليح وتدريب روسي وتمويل سعودي. وتكون القيادة العسكرية لهذه القوّة مصرية - سعودية (السيسي ومتعب). أمّا قيادتها السياسية فمصرية - سعودية - روسية (وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو).

ووفقاً للمشروع المقترح، تضطلع القوّة بمهمة مكافحة الإرهاب في ليبيا والسودان والخليج والعراق وسوريا واليمن، وهي ستتولّى مواجهة القوى التي تدفع نحو تقسيم المنطقة، أي أنّها ستحمي الكيانات العربية الحاليّة ووحدتها، وفي مقدّمها السعودية.

كما يُفترض أن تزوّد روسيا هذه القوّة بالتجهيزات العسكرية. وستكون مهلة الانتهاء من التدريب والتجهيز ستّة أشهر. وثمّة حديث عن مَقرّين مقترحَين لها: في مطار شركة «أرامكو» (المنطقة الشرقية) في السعودية، ومطار أسوان في مصر.

في ظلّ هذا التصارع حول مستقبل الكيانات في الشرق الأوسط، أيّ خيار سينتصر؟ سايكس - بيكو وأسياد الإنتداب عام 1914، أم «الشرق الأوسط الجديد» والأسياد الجُدد في 2014؟