يدعو سياسي عربي مخضرم وعالِم بأوضاع العراق والمنطقة الى قراءة الاحداث الدراماتيكية الجارية في بلاد الرافدين على مستويين: الاول، داخلي مرتبط بطبيعة العلاقات المتوترة بين المكوّنات العراقية السياسية والاجتماعية، والثاني جيوسياسي مرتبط بالتحولات الجارية إقليمياً ودولياً.

بالنسبة الى المستوى الداخلي يرى هذا السياسي انّ ما جرى ويجري لم يكن مفاجئاً لمَن يتابع المشهد العراقي منذ 3 أعوام ونيف، خصوصاً منذ بداية السنة الجارية حيث كانت منطقة الأنبار، ولا سيما منها الفلوجة والرمادي، مسرحاً لاشتباكات دامية بين القوات الامنية العراقية وبين معارضيها المسلحين على اختلاف عناوينهم وتسمياتهم.

ويضيف هذا السياسي انّ المفاجأة الحقيقية كانت في الانهيار السريع لقوات الجيش والامن العراقية في الموصل وتكريت وغيرهما، حيث بدا وكأنّ في العملية «تسليم وتسلّم» بين «فريق» وآخر. ويعتقد ان هناك مبالغة في الحديث عن دور «داعش» وتعظيمه، استفاد منها اكثر من طرف.

فرئيس الحكومة نوري المالكي أراد ان يستنفر دول الاقليم والعالم لمساعدته في مواجهة الارهاب، فيما عمد بعض المعارضين الى تضخيم دور «داعش» لكي يجذب انظار دول الاقليم والعالم الى ما يحوط بهم والى ضرورة الاستماع الى مطالبهم لكي لا تسقط هذه المنطقة المترامية الاطراف في يد الارهاب وتشكل مع المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة السورية نواة دولة تفوق في المساحة سوريا نفسها، وتشكّل اكثر من نصف مساحة الدولة العراقية.

ويرى السياسي المخضرم نفسه انّ الدور الابرز في هذه التطورات الجارية هو لضبّاط الجيش العراقي السابق الموزّعين في القيادات العسكرية لكثير من المنظمات المسلحة، وتربط بينهم تراتبية عسكرية تجعلهم خاضعين لخطط واحدة ويأتمرون بأوامر عسكرية واحدة وكأنهم ما زالوا في الجيش، حيث الملازم يخضع للملازم الاول وهذا الاخير يخضع للنقيب. وهكذا، حتى الوصول الى رتبة «الفريق».

وبين الضبّاط السابقين اكثر من «فريق ركن» حسب ما ظهر في وسائل الاعلام، الى جانب الضباط، وتحت امرتهم أبناء العشائر التي ينتمي اليها الضباط انفسهم ويشكلون الحاضنة الاجتماعية لحركتهم.

وهناك طبعاً جيش رجال «الطريقة النقشبندية» الصوفية المنتشرة بين العرب والاكراد وفي شمال العراق، والتي لها اتباع ايضاً في سوريا وتركيا، وحتى في لبنان، وهي طريقة كان يلتزمها نائب الرئيس العراقي السابق عزت ابراهيم الدوري، والتي يقال انها حَمته طوال السنوات الماضية وحالت دون اعتقاله، خصوصاً انّ رجال هذه الطريقة وبينهم ضباط بعثيّون ولديهم اسلحة كانوا قد خَزّونها بعد الاحتلال الاميركي للعراق، وهم يعتبرون أنفسهم متمسكين بشرعية الدولة التي كانت قائمة قبل الاحتلال، وكذلك يعتبرون الدوري «رئيساً للعراق وقائداً عاماً للقوات المسلحة» بعد اعدام الرئيس السابق صدام حسين.

وهناك كتائب «ثورة العشرين» التي يقودها الشيخ حارث الضاري رئيس «هيئة العلماء المسلمين»، والذي يشرف على قناة «الرافدين» الفضائية الواسعة الانتشار في العراق وتعتبر قناة «المنتفضين» اليوم على الاراضي العراقية، والتي تحرص على تقديم خطاب يتجنّب الهجوم على المكونات الأخرى في العراق ولا سيما منها الشيعة، كذلك تتجنّب أي هجوم على سوريا وتكتفي بالتركيز على ايران.

وبالاضافة الى هذه القوى هناك «الجيش الاسلامي» و»جيش المجاهدين» وغيرهما من المنظمات التي أدّت دوراً في مقاومة الاحتلال الاميركي في غرب العراق وشماله الغربي. امّا علاقة تنظيم «داعش» بهؤلاء، فهي علاقة تحالف ميداني ضد حكومة بغداد، ولكن تسود بين جميع هذه الاطراف خلافات وتباينات فكرية وسياسية وسلوكية كبيرة، فـ»داعش» سوريا تكفّر البعث فيما «داعش» العراق تتحالف مع البعثيين ضد المالكي.

ولا يستبعد هذا السياسي المخضرم انه في حال استتبت الامور لهؤلاء في بعض المحافظات العراقية فإنّ اشتباكات قد تنشب في ما بينهم على غرار ما يجري في سوريا، مع فارق بسيط هو انّ «داعش» لا تستطيع التحريض المذهبي أو الطائفي ضد هذه المجموعات لأنها تنتمي الى البيئة السُنية نفسها، بالاضافة الى تمتّعها بخبرات عسكرية عالية وبيئة شعبية حاضنة تستطيع ان تحاصر «داعش» مثلما حاصر «أهل الصحوات»العراقية في سنوات سابقة المقاتلين في تنظيم «القاعدة».

لكنّ الحليف الاقوى لهذه الجماعات يبقى في الاخطاء الجسيمة التي وقع فيها أداء المالكي، سواء من خلال عجزه عن محاربة الفساد والمحسوبية في الادارات الحكومية، او من خلال تفرّده في الحكم ما أثار غضب كثير من حلفائه في العملية السياسية شيعةً وسنّةً واكراداً الذين ينظرون اليه اليوم نظرة الشامت، ويتطلعون الى القوى المؤثرة في العراق وفي مقدمها واشنطن وطهران من اجل استبداله برئيس وزراء آخر يهدىء الخواطر ويستوعب غضب الشرائح الناقمة في غرب العراق وشماله.

امّا على المستوى الاقليمي فيكشف هذا السياسي المخضرم رؤية اضافية لديه تتعلق بالاطار الاقليمي والدولي الذي تجرى فيه هذه الاحداث، فيقول انه مثلما كان العراق عام 2003 ساحة نظام اقليمي وعالمي جديد يعيد صوغ العلاقات الاقليمية والدولية، فإنّ عراق 2014 سيكون الساحة التي ستشهد تبدلات في التحالفات وصياغة جديدة للعلاقات الاقليمية والدولية.

ويرى هذا السياسي انه تحت شعار مكافحة الارهاب الممتد من سوريا الى العراق، والذي بات يهدد دولاً عربية واقليمية، وحتى غربية، فإنّ حلفاً قد ينشأ بين قوى كانت الى وقت قريب متباعدة ومتناحرة، وربما كانت تحتاج الى عذر كبير في مستوى «مكافحة الارهاب» لكي تخرج من حال التناحر والتباعد القائمة بينها.

ومن هنا يعتقد السياسي المخضرم انه على عكس ما يظن كثيرون من انّ تداعيات العراق سيكون لها آثارها السلبية في المنطقة، فإنها قد تؤدي الى تفاهمات عربية واقليمية ودولية تشيع الاستقرار في المنطقة، ومن لم يقرأ رسالة استعادة الجيش السوري مدينة «كسب» على حدودها مع تركيا بعد ايام من زيارة الرئيس الايراني الشيخ حسن روحاني لأنقرة، لن يفهم الكثير من الأمور التي جرت وستجري في أسرع ممّا يظن البعض.