ألغت «داعش» خط الحدود العراقي - السوري. وأساساً ليس هذا خط سايكس - بيكو (1916). فالموصل، في الإتفاقية، كان مع حلب ودمشق في المنطقة «أ»، أي في سوريا. والبريطانيّون استعادوه إلى نفوذهم في العراق، عام 1925. أمّا «داعش» فلا تعترف بالكيانين العراقي والسوري. ولذلك، سيهتزّان معاً، ومعهما تهتزّ الكيانات في الشرق الأوسط أو تسقط... كحجارة «الدومينو».

إذا كان البعض يتمسَّك بنظرته «البريئة» أو المثالية إلى «الربيع العربي»، فيكفيه النظر إلى ما أصبحت عليه سوريا والعراق ليصبح أكثر «خبثاً» وواقعية. فهذان البَلَدان دخلا عصر التفتيت عملانياً.

إكتسحت «داعش» محافظة نينوى ومدينة تكريت، كما النار في الهشيم. والأهمّ هو أنّها تحظى بتغطية شعبية في هذه المناطق، وأنّ بعض الجيش هناك قدّم لها الدعم... وانسحب عشرات الألوف من الضبّاط والجنود من المنطقة، بلا قتال يُذكر، مع أنّ مقاتلي «داعش» أقلّ عدداً وعدّةً.

ووفق تقديرات، ربّما يكون نصف العراق مرشّحاً للسقوط (معظم الأنبار وقعت قبل أشهر في أيدي «داعش»)، بحيث ينقسم بين شمال كردي ووسط سنّي وجنوب شيعي.

ثمّة محلّلون يُسجّلون علاقة «مشبوهة» بين «داعش» والمحور الإيراني، ويقدّمون الدلائل. فالتنظيم لا يقاتل النظام في سوريا، بل يقاتل «الجيش السوري الحر». وفي العراق، يعتقد كثيرون أنّ نوري المالكي سيستفيد من التوقيت الذي تتحرَّك فيه «داعش»، بعد الإنتخابات مباشرة، لتعويم دوره في السلطة.

ويتوقّف البعض عند حرص «داعش» على عدم استعداء إيران. وهناك من يطرح الأسئلة عن تزامن الحراك الداعشي مع انطلاق المفاوضات الإيرانية - الأميركية.

هذه الشكوك قد تكون في محلّها. فالمحور الإيراني - السوري ربّما يخرق «داعش» أو يتحكَّم ببعض حراكها. وليس غريباً أن تحتفظ إيران بحدٍّ من العلاقة مع التنظيم. فهي وثيقة الصلة بتنظيمات سنّية سلفية أو جهادية.

فهي دعمَت «حماس» في مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني، وحاولت الإحتفاظ بهامش من التواصل مع «الإخوان المسلمين» في سوريا، على رغم الحرب المصيرية بينهم وبين حليفها الأسد، وكذلك في مصر. وهناك تحليلات كثيرة حول العلاقة بين طهران وتنظيم «القاعدة» منذ نشوئه.

لكنّ هذه الفرضيات، أيّاً كانت درجة الصواب فيها، لا تحجب الصورة التي بدأت تتشكّل في الشرق الأوسط بدءاً من سوريا والعراق، والتي تُنذر بفرز للمناطق على أساس مذهبي وعرقي. وثمّة أسئلة عمّا إذا كانت لإيران مصلحة فيها. وهذه الصورة هي التي تَوقَّعها العديد من الباحثين عند انطلاق «الربيع العربي».

فالحرب في سوريا تحوّلت إستنزافاً عبثياً. وتبيَّن أنّ هناك خطوطاً محجوزة مسبقاً لكلّ من الطرفين المذهبيين. فالأسد أُعطيَ الهامش دوليّاً ليسيطر على المناطق الحيوية الممتدّة من الساحل إلى دمشق، مروراً بحمص وأجزاء من حلب، وصولاً إلى الجولان.

وتالياً، تمّ غضّ النظر عن تدخّل «حزب الله» في المعارك. وأصبحت المنطقة العلوية السورية متلاصقة مع المنطقة الشيعية اللبنانية، فيما المناطق السُنّية متلاحمة مع المنطقة السُنّية العراقية.

ثم كرَّس الأميركيّون بقاءَ الأسد لولاية جديدة في مناطقه. لكنّهم بعثوا بإشارة إلى أنّ هناك خطاً أحمر لتمدّده، عندما وعدوا مجدّداً بمنح المعارضة سلاحاً قادراً على تحقيق التوازن.

وأمّا في العراق، فالفرز يتكرَّس، ولا مجال لانتزاع المناطق التي اكتسحتها «داعش» منها إلّا بحرب مذهبية، خصوصاً عندما تستولي على رموز شيعية كسامرّاء، حيث مرقد الإمامين العسكريين. وهذه الحرب سيطول أمدُها كثيراً على الطريقة السوريّة، إذا اندلعَت، ولن ينتصر فيها أحد. وخلالها، سيغلق الأكراد مناطقهم تجنّباً للأسوأ، ويصبح التواصل بين الضفتين الكرديتين، العراقية والسورية، أكثر وثوقاً.

وستكون للمناطق المُفرَزة قدراتٌ نفطية وتسليحية وتمويلية تكفيها للصمود. وسيترك هذا المشهد تداعيات خطرة على الجوار: الخليج العربي، الأردن، لبنان، مصر، فلسطين، تركيا، وربّما إيران.

وهكذا، تكون «داعش» قد فتحت باب المتغيّرات الشرق أوسطية الكبرى، حيث لكلٍّ دورُه في اللعبة، فيما الإسرائيليون يديرون الجميع من خلف الستارة. فالجميع حجارة. ومَن يبقَ يُخبِّرْ!