الكاتب: عمر قدّور

المصدر: جريدة الحياة

إذاً، حدثت «الانتخابات» الرئاسية السورية كما شاء لها النظام، والأهم أنها حدثت بلا تبعات إضافية على الصعيد الخارجي، إذ لم يبادر المجتمع الدولي مع الإعلان عنها إلى التهديد بعقوبات تمس شرعية النظام وبعثاته لدى المنظمات الدولية، ولم تغير القوى الدولية استراتيجياتها إزاء الوضع عموماً، فبقيت مصرّة على الحل السياسي على النحو الذي أثبت فشله في جنيف. بالتزامن مع عمليات فرز الأصوات، صرح وزير الخارجية الأميركي جون كيري بأنها «ليست انتخابات، هي عبارة عن صفر»، في ما يشبه تنصلاً فاضحاً من الرد على إجرائها، بعد يوم على تصريحات السفير السابق روبرت فورد إلى شبكتي «سي إن إن» و «بي بي» التي أرجع فيها استقالته إلى عدم قدرته على الدفاع عن السياسة الأميركية.

يمكن القول أيضاً إن حلفاء النظام نجحوا، من خلال إجراء الانتخابات بلا عواقب، في فرض مزيد من القهر واليأس على السوريين الذين وجدوا أنفسهم مرة أخرى معزولين بلا أدنى دعم. بالإصرار على دعم الأسد، وعدم تقديم تنازلات في شأن تنحّيه، برهن الحلفاء على نيته خوض معركة بقائه حتى النهاية، مع قناعتهم بأن معركتهم هي مع الشعب السوري فقط. ولعل هذا ما ذهب إليه كيري أيضاً بقوله في بيروت: «لا يمكننا أن نحدد كيف ومتى سيسقط بشار الأسد، لأن هذا يعتمد على أشخاص في دول أخرى ويعود إلى الشعب السوري».

لا غرابة بعد تلك الحيثيات في أن يستنتج كثيرون أنّ الأسد باق، على الأقل ما بقيت الاستراتيجيات الدولية الحالية. استنتاج أثقل وطأة من ذي قبل كونه يأتي بعد ثلاث سنوات من المد والجزر حول مصيره، ومن التسريبات المتناقضة حول المواقف الدولية، سواء تلك الخاصة بالموقف الروسي أو بمواقف «أصدقاء الشعب السوري». الأسد باقٍ بدعم دولي من حلفائه، وبصمت دولي من الجهة الأخرى حيث يحضر الصفر الانتخابي لكيري تبريراً للصفر السياسي لنهج إدارته. وهو استنتاج غير مبني على نظرية المؤامرة التي قد يتبناها بعضهم، ما دامت حيثياته واضحة ومعلنة من كل الأطراف المعنية، كما أنه استنتاج لا ينبغي أن يدلل مطلقاً على قوة الأسد بمقدار دلالته على ضعفه.

أثبتت أحداث السنوات الثلاث الأخيرة أن قوة الأسد في ضعفه، وكلما بانَ ضعف النظام أكثر أسعفه الدعم الخارجي بمزيد من العتاد والمقاتلين، وأسعفته القوى الغربية بمزيد من التفهم والوقت، وبحجب الدعم عن المعارضة. كان همّ الإدارة الأميركية مع بدء الثورة السورية تحييد الدول المجاورة عن آثار الصراع السوري، ولا بد من تسجيل النجاح لها على هذا الصعيد. فهي استطاعت مقايضة الاستقرار في لبنان «المرشح أكثر من غيره للانفجار» بصرف النظر عن تدخل «حزب الله» في الحرب السورية، بل ربما كان زعيم الحزب الأكثر تفهماً للسياسة الأميركية عندما دعا المتقاتلين اللبنانيين إلى الذهاب إلى سورية لتصفية حساباتهم.

عبر القناة الإيرانية التي أعاد الغرب فتحها مباشرة، تم الاستغناء عن خدمات الوسيط السوري في لبنان والعراق، وجرى فعلياً الإجهاز على الثقل الإقليمي للنظام عندما وجدت إيران مصلحتها في مباشرة دورها بنفسها، ووجدت الإدارة الأميركية ذلك أقل كلفةً وأقصر سبيلاً. لن يكون مهماً من هذه الجهة تدفق الدعم الشيعي من العراق ولبنان على النظام، بل لعله يؤدي الغرض المطلوب أميركياً ويؤشر إلى عزل نفوذ النظام ضمن رقعة لا تغطي حتى الأراضي السورية. من نافل القول ان إضعاف النظام خارجياً، وذهاب ميليشيات «حزب الله» لمساندته داخلياً، يحققان مصلحة إسرائيلية أكبر من إسقاطه.

في المقابل، لا يخفى تشبث الروس والإيرانيين بالأسد كلما ازداد نظامه ضعفاً، بل لا يخفى تشديد حلفاء النظام جميعاً على ضعفه وعلى تولّيهم حمايته، وفُهمت تلك الإشارات مراراً كإهانات توجه الى النظام. ولكن، بعيداً من التأويل الأخير، يجوز فهم تصريحات الحلفاء بصفتها شرحاً لواقع الحال، وتأكيداً منهم أن دعمهم لنظام ضعيف أولى من دعمهم لنظام قوي، لا لأن نظاماً قوياً لا يحتاج الى الدعم أساساً، بل لأن نظاماً ضعيفاً سيكون أكثر مرونة لتمرير مصالحهم. لنتذكر أن النظام طيلة عهدي الأسدين، الأب والابن، لم يكن حليفاً موثوقاً للروس، إذ واظب خارج أوقات الأزمات على بث رسائل الغزل والتقارب إلى الغرب والإدارات الأميركية، ووجوده قيد الضغط والعزلة هو الذي يحقق المصلحة الروسية.

أما مكاسب الحليف الإيراني فتعدت التحالف الوثيق السابق إلى الوصاية المباشرة على المفاصل الأساسية للنظام. صحيح أن النفوذ الإيراني مهدد بالزوال في حال سقوط النظام، إلا أن الصحيح في المقابل أن ضعف الأخير أفسح في المجال لتغلغل إيراني غير مسبوق في مفاصل النظام. مثلاً، قبل أيام تناقلت وسائل الإعلام مقتل قائد في «الحرس الثوري» الإيراني على جبهة «المليحة»، ووجود هذا القيادي في الجبهة، وهو ليس الأول من نوعه، يعني قيادة إيرانية للمعارك، ويعني أكثر من هذا قيادة وعلاقة مباشرة بالمستويات المتوسطة من الكوادر الأمنية والعسكرية للنظام، بل يذهب معظم التقديرات إلى هيمنة الإيرانيين التامة على القرار الأمني والعسكري. فضلاً عن ذلك، يشير قياديون في «الحرس الثوري» إلى تدريبهم حوالى مئة وخمسين ألفاً من ميليشيات النظام في إيران. ومن المعلوم أن التدريبات لا تقتصر على الجانب القتالي، بل تقترن بالجانب الأيديولوجي. ومن الملاحظ أن العائدين يضعون على بزاتهم شارات طائفية من النوع الذي كان مقتصراً على مقاتلي «حزب الله». أيضاً، لعلها المرة الأولى التي تظهر فيها بوادر لنجاح «التبشير» الشيعي في الساحل السوري، بعد فشلها الذريع أيام استقرار النظام، وفي هذا دلالة على تسليم جزء من قاعدة النظام بفشله وتوسل الحماية مباشرة من الإيرانيين.

ويُرجّح أن يفضل حلفاء الأسد بقاءه، ولكن ضعيفاً، وهذا ما يفسر عدم قبولهم بتسوية طالما أن أي بديل لن يكون ضعفه مضموناً كما الحال الآن. عند هذه النقطة تتلاقى المصالح الدولية ضمن المدى المنظور، ويصح أيضاً التشكيك في وجود بديل يحقق كل هذه المكاسب.