قالت حركة المقاومة الإسلامية حماس على لسان أكثر من مسؤول فيها، أنها استمدت الشجاعة من تجربة حركة النهضة الإسلامية في تونس لتقديم التنازلات اللازمة والضرورية من أجل المضي قدماً في عملية المصالحة وإنهاء الانقسام على الساحة الفلسطينية، حتى أن رئيس الحكومة المقالة السيد إسماعيل هنية قال في رفح الثلاثاء 27 أيار أن خروج الحركة من الحكومة لا يعني خروجها من الحكم في استنساخ حرفي  تقريباً؛ لما قاله السيد راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة، وقبل ذلك نقلت صحيفة الشرق الأوسط عن قيادي آخر – الجمعة 9 أيار – قوله: أن الخطوات الجريئة التي اتخذتها الحركة متشجعة من التجربة التونسية، ستنقلها باتجاه تجربة أخرى، وهي التجربة اللبنانية كون الحركة لديها إمكانات القوة على الأرض بما فيها الأمنية والعسكرية، ما يمكنها من الحفاظ على شرعيتها وقدرتها حتى في تحديد الرئيس المقبل وأعضاء البرلمان مستفيدة من تجربة حزب الله في لبنان حسب تعبيره.

قبل إبداء الرأي في مدى ملاءمة التجربتين للساحة الفلسطينية، لا بد أولاً من تعريفهما أو شرحهما كي يكون الاستنتاج أو الحكم أبسط وأدق وأصح. فالتجربة التونسية أظهرت بشكل عام أن الوقت لم يحن بعد لوصول الإسلاميين إلى السلطة وسيطرتهم على الحكم بكل مفاصله، والأمر لا يتعلق فقط بافتقادهم إلى القدرات والخبرات البيروقراطية والإدارية اللازمة والضرورية لإدارة الدول، وإنما لصعوبة التحدي وعمق الأزمات التي تعيشها البلدان العربية بعد عقود من الاستبداد الذي ترك وراءه أرض مدمرة. كما في النموذج المصري التونسي أو أرض مدمرة ومحروقة. كما في النموذج المصراتي الحمصي، وواضح أن حركة النهضة فهمت هذه الحقيقة منذ البداية، ومن هنا ابتعدت عن الهيمنة على المناصب الرئيسية والمركزية الثلاث، وعمدت في المقابل إلى ما توصف بتجربة الترويكا مع الرئيسين المنصف المرزوقي ومصطفى بن جعفر التي كانت في جوهرها تحالف بين الإسلاميين المعتدلين والعلمانيين المعتدلين حسب التعبير البليغ للشيخ راشد الغنوشي، كما عمدت الحركة بشكل دائم إلى مراجعة وتقييم تجربتها الرائدة والناجحة، وهذا ما مكّنها من استيعاب حقيقية تأسيسية أخرى مفادها أن تجربة الترويكا المتقدمة أصلاً لم تستوعب قوى ثورية رئيسية ومركزية سياسياً فكرياً وثقافياً، وأن المرحلة الانتقالية التي تعيشها تونس تقتضي بالضرورة وجود حكومة تكنوقراط تضم  كفاءات وطنية مستقلة، حزبياً تشرف على إدارة المرحلة وإجراء الانتخابات التشريعية وفق دستور عصري متماسك ومنسجم، وقانون انتخابات متوازن وعادل تم التوافق عليهما بما يشبه الإجماع بين القوى   والمكونات الأساسية في البلد.

تجربة النهضة لحظت كذلك الانفتاح على  معظم مكونات المجتمع التونسي سياسياً فكرياً وثقافياً، وعدم التهاون أو المهادنة مع التيارات التكفيرية الرافضة لمدنية الدولة أو نظامها الديموقراطي والراغبة في فرض منطقها الأحادي بالقوة  القهرية على الدولة والمجتمع.

التجربة اللبنانية تبدو مختلفة لدرجة التناقض مع ما جرى في تونس، وهي أي تجربة حزب الله تعبّر في السياق المضاد عن حقيقتين أساسيتين تتمثل الأولى بعجز أنظمة الاستبداد الكبرى، والمركزية عن مواجهة إسرائيل وتحرير فلسطيين وإلقاءها المسؤولية الكبرى الصعبة والتاريخية على عاتق حركات وتنظيمات مقاومة صغرى ومتواضعة، أما الثانية فتتمثل بتشكيل جيش لتلك التنظيمات بكل ما للكلمة من معنى والابتعاد عن نمط أداءها المعروف والناجع ما أدى إلى ما يشبه الانهيار في هيبة وسلطة الدولة، وزيادة حدّة الاستقطاب السياسي والطائفي، ووصول الأمر إلى حافة الاقتتال، وحتى الحرب الأهلية كما جرى مثلاً في 7 أيار2008.

عندما فشلت أنظمة الاستبداد والفساد في هزيمة إسرائيل وتحرير فلسطين كانعكاس طبيعي ومنطقي لعجزها عن بناء دول ومؤسسات قوية قادرة على تحدي الدولة العبرية، عمدت كما حدث في النموذج السوري للأب والابن وبموازاة إحكام قبضتها على المجتمع إلى إلقاء تبعة المواجهة على عاتق حركات المقاومة في لبنان وبدرجة أقل فلسطين، والأمر الذي بدأ بشكل محدود وتكتيكي في عهد الأسد الأب تحوّل إلى ما يشبه الاستراتيجي في عهد الأسد الابن، وبالتالي الانتقال إلى فكرة تشكيل جيش للمقاومة، وبما يفوق قدرات الجيش والدولة اللبنانية الضعيفة أصلاً، وهذا الأمر لم يؤدي فقط إلى تآكل هيبة وسلطة الدولة، وإنما إلى زيادة حدّة الاستقطاب السياسي والمذهبي، ووصول البلد إلى حافة الانهيار الاقتتال، وحتى التقسيم والانفصال، غير المعلن بين القوى والمكونات المختلفة؛ ناهيك عن إدارة حرب شبه تقليدية مع إسرائيل صيف 2006، أدت إلى تدمير كبير في الضاحية والجنوب وخسائر وأضرار سياسية واقتصادية على مستوى البلد ككل لم يتم التعافي منها حتى الآن.

استخدام السلاح  في التجربة اللبنانية للتأثير على القضايا والملفات السياسية من انتخاب الرئيس إلى اختيار رئيس الحكومة والوزراء، وحتى أعضاء البرلمان - كما قال عن حق المسؤول في حماس - لم ينل فقط من روح وجوهر النظام الديموقراطي، وإنما قضى في السياق على روح الدستور واتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية ما جعل احتمال العودة إليها قائماً بل وجدياً أيضاً.

إذن وببساطة وبوضوح بينما تدفع التجربة التونسية باتجاه تأسيس الدولة المدنية الديموقراطية – بمرجعية إسلامية ما - لكل مواطنيها تسير التجربة اللبنانية باتجاه استنساخ ما لمنظومة الاستبداد العربية التي هدمتها الثورات العربية وتبدو استعادتها مستحيلة، وحتى  ضرب من الجنون.

إسقاط الاستنتاجات والمعطيات السابقة على السياق الفلسطيني يعني أن من المبكر، وحتى المبكر جداً  وصول الإسلاميين إلى السلطة في بلد ما زال يعاني من الاحتلال، ولم يتحرر بعد وأن  المصلحة الفلسطينية  العامة، وحتى الخاصة للحركة الإسلامية نفسها تقتضيان مغادرتها بأسرع وقت ممكن وامتلاك الشجاعة للخروج منها، كما في التجربة التونسية لا يجب أن يدفع في الاتجاه اللبناني بأي حال من الأحوال مع الانتباه إلى أن جزء مهم من حماس الداخل سار فعلاً بذلك الاتجاه - على عكس رغبات حماس الخارج - واستلب لفكرة جيش المقاومة وخوض الصراع مع إسرائيل على الطريقة اللبنانية ما أدى جزئياً إلى الاقتتال والانقسام وكلياً إلى تدمير غزة بعد حربين شبه تقليديتن في أقل من خمس سنوات.

تبني التجربة التونسية فلسطينياً يجب أن يكون نصاً وروحاً مع تحديث ما يتلاءم مع الواقع الحالي في فلسطين، وروح التجربة في بلد البوعزيزي ومهد الثورات تدفع باتجاه نموذج المقاومة الشعبية الجماهيرية بأبعادها المختلفة السياسية الديبلوماسية والميدانية، والابتعاد قدر الإمكان عن ذهنية العسكرة على الطريقة اللبنانية أو استخدام السلاح لتحقيق مكاسب سياسية  فئوية ضيقة والاقتراب أكثر ما يمكن من نموذج الانتفاضة الأولى انتفاضة الحجارة التى كانت ملهمة لجيل كامل من الشباب والثوار العرب، كما قال ذات مرة وعن حق الرئيس التونسي المنصف المرزوقي.

·        كاتب فلسطيني