نجح النظام السوري في استعراض قوّته للمرة الأولى منذ خروجه العسكري في 26 نيسان 2005، ونجاحه ليس ناتجاً عن هذه القوّة، إنما هو دليل على ضعف أخصامه في لبنان.

تقصّد النظام السوري تحويل انتخاباته الرئاسية في لبنان إلى مشهد انتقامي واستفزازي للبنانيين الذين راهنوا على سقوطه كمدخل لتصحيح العلاقات اللبنانية-السورية، فضلاً عن أنّ الانتخابات برمتها وبحدّ ذاتها تشكل تحدياً سافراً للشعب السوري الحرّ والمجتمعَين الدولي والعربي، إذ لا يكفي أنها معلبة على الطريقة البعثية التقليدية، إنما تُجرى على جزء من الأرض السورية وسط حمّام الدم المتواصل للاستمرار في السلطة بقوة الحديد والنار والتخاذل العالمي، لا بقوة الناس الفعلية التي قالت «لا» مدوِّية لهذا النظام مع انطلاق الثورة السورية.

وقد وجد النظام السوري هذه الانتخابات الصورية كالعادة مناسبةً للانتقام من اللبنانيين الممنوع عليهم انتخاب رئيس للجمهورية بفعل الأدوات السورية التي عطلت الانتخابات، كما وجدها مناسبةً لاستفزاز مشاعرهم عبر تأكيد حضوره مجدداً على المسرح السياسي اللبناني الذي احتله «حزب الله» بعد التحرير في العام 2005، وتزامن المشهد الاسفزازي مع ما يسمى المذكرات القضائية السورية في خطوةٍ تذكيرية بأنّ النظام السوري ما زال موجوداً وقادراً.

وفي موازاة المشهد الاستفزازي الذي ذكّر اللبنانيين بتظاهرة «شكراً سوريا» لا يجب التقليل من خطورة المسألة الاستخدامية لشريحة من اللاجئين السوريين الموالين للنظام من قبل «حزب الله»، والتي أعادت إلى الأذهان استخدامَ المكوّن الفلسطيني في الصراع الداخلي عشيةَ الحرب الأهلية وإبانها، فضلاً عن حملة السواطير في مواجهة القوى السيادية في معركتها الاستقلالية ضدّ الوصاية السورية.

فالتظاهرة السورية هي بروفا من تنظيم «حزب الله» على الأرض اللبنانية، وهذه البروفا قابلة للتكرار، إنما على أساس أجندة لبنانية، أي باستخدام المكوّن السوري ضمن الصراعات اللبنانية-اللبنانية. فالحزب لن يُهمل هذه الورقة التي سيوظفها في كل ملف واستحقاق وقضية لانتزاع تنازلات سياسية، أو الضغط على أخصامه وإرباكهم بقضايا فرعية لحرف الأنظار عن تورطه في سوريا وخسائره البشرية المتمادية وسلاحه.

ومن هنا، الاستقرار الكامل لا يتناسب مع سياسة الحزب الذي يريد فوضى مضبوطة على غرار المرحلة كلها بين عامَي 2005 و2014 والتي لولا خروج التطرف السنّي عن سيطرته لما قدم التنازلات التي تلت، وبالتالي هو في حاجة اليوم إلى أدوات جديدة ليواصل سياسته القائمة على التوتير الممسوك بغرض الضغط والإلهاء وترييح ساحته التي يفضل عدم إقحامها بأجندات توتيرية لرفع المسؤولية المباشرة عنه إلّا في حال اضطراره كما حدث في 7 أيار وغيرها.

ولذلك، من الآن وصاعدا يجب توقّع تكرار المشهد السوري تحت عناوين مختلفة. ولكن إذا كان من حق النظام البديهي القيام بكل ما قام به، كما من حق فريق 8 آذار مؤازرته وتغطيته والترويج لهذه «الديموقراطية» التي يسعى هذا الفريق جاهداً منذ 9 سنوات لنقلها إلى لبنان، لأنّ العدوّ الأول لمحور الممانعة هو الحرية والديموقراطية، إلّا أنّ كل الحق يقع على 14 آذار الحكومية،

وذلك للأسباب الآتية:

أولاً، كل التطورات والأحداث والوقائع دلّت أنّ 14 آذار فقدت منذ تأليف الحكومة أدبياتها وخطابها والأهم عصبها ونبضها، ولولا ترشح الدكتور سمير جعجع إلى الرئاسة أو دخوله الحكومة لكان يمكن القول إنّ لبنان دخل في مرحلة كاملة من التطبيع مع الوضع الذي يتلاءم مع تطلعات «حزب الله».

ثانياً، تخلّت 14 آذار الحكومية منذ تأليف الحكومة السلامية عن خطابها وأدبياتها، وانسحبت من المعركة الوطنية، فلم تعد مسألة قتال «حزب الله» في سوريا قضيتها، ولا نزع سلاحه من أولوياتها، والتحذيرات التي أطلقت من مغبة التطبيع مع الحزب كان الجواب عليها بأن الدخول إلى الحكومة هو من أجل تحسين شروط المواجهة، ولكنّ الوقائع أيضاً دلت أنّ 14 آذار الحكومية تخلّت عن هذه المواجهة.


ثالثا، هل كان يجرؤ النظام السوري أو «حزب الله» على تنظيم عراضة للرئيس السوري في حقبة الانقسام والمواجهة والتعبئة في ظلّ حكومتَي الرئيس فؤاد السنيورة وحكومة الرئيس سعد الحريري؟ بالتأكيد كلا، لأنّ الحزب استفاد من التبريد السياسي ودخول 14 آذار في استراحة المحارب وفي حال من الاسترخاء غير المبررة قادت إلى فك الاشتباك السياسي.

رابعاً، انسحاب 14 آذار الحكومية من المعركة الوطنية أدى إلى الإخلال بميزان القوى السياسي الداخلي لمصلحة «حزب الله»، ومواصلة انسحابها سيقود قريباً إلى تحوّلها شاهدَ زور على ممارسات الحزب الذي سيتمكن من الإمساك بكل مفاصل اللعبة، وبالتالي لوقف هذه الاستباحة لا حلّ أمام 14 إلّا باستعادة المبادرة على مستويَين:

أ- الأول وطني عبر إحياء منطق المواجهة مع «حزب الله». فقوى 14 آذار لا يمكنها أن تفوز بالرئاسة الأولى في ظل ميوعتها الراهنة، ويستحيل أن تفوز بالانتخابات النيابية ما لم تستعِد أدبياتها وتستنفر شارعها على أساس مبادئ انتفاضة الاستقلال وثوابتها.

ب- الثاني حكومي عبر التأسيس على التظاهرة السورية لاتخاذ تدابير سريعة وحازمة وجذريّة حتى لو اقتضى الأمر الدخول في مواجهة مكشوفة مع «حزب الله»، لأنّ تنظيم ملف اللاجئين لم يعد يحتمل تأجيلاً وتسويفاً، خصوصاً بعد انكشاف نيات الحزب استخدامه في الصراع الداخلي.