بداية هناك موانع من ان نبالغ في توقعنا بايقاف العنف ضد الزوجة نهائياً، واذا كانت اشكالية هذا العنف متأتية اساساً من بنيان اجتماعي يتسنم الذكر ذروته ويمارس من هناك ضغطه على موجب قوته واستقوائه بالقانون الذي يضعه، وإن وضعه ووجد فيه مانعاً، تخطاه، فان ملمحا من هذه الاشكالية يأتي من الموقع الذي يضع فيه الدين المرأة او الزوجة خصوصا، وفي التوراةوالانجيلتنبني العلاقة الزوجية على دونية المرأة المطلقة، ما حاول بولس ان يهذبه من دون ان يلغيه، ومن دون ان نجد في الاناجيل مسوغا لذلك، مما يعني ان بولس تأثر بجذوره الثقافية وثقافته اليونانية التي اختزلت فيها المرأة "ببندورا" امعاناً في الزامها بدونيتها ومصدرية الشر في عينيها.
يقول بولس ان رأس او رئيس المرأة هو الرجل، وعلى النساء "ان يطعن ازواجهن كما يطعن الرب لأن الزوج رئيس لزوجته، كما ان المسيح رئيس او رأس للكنيسة"، فعلى النساء اذاً ان يطعن في كل شيء ازواجهن طاعة الكنيسة للمسيح، ويقول لهن بولس "ايها النساء اطعن ازواجكن كما ينبغي في الله"، ما يشتم منه ان بولس يأمر بالطاعة حتى العبادة، مقامة على التفاضل التكويني بين الجنسين لمصلحة الرجل، وهذا الترتيب يتناسب مع منهجية بولس البراغماتية ، (وليس وصفاً سلبياً من قبلي) والتي جعلت الفقراء في مرتبة دون الاغنياء وجعلت المحكومين في مرتبة دون الحاكمين، واوجبت الطاعة من الادنى للأعلى على مقتضى الدين والايمان!، هذا في حين ان النص التأسيسي الاسلامي الذي يجمع الناس تبعاً لاجماع العلماء على انه قطعي السند، اي ثابت لا يشوب ثباته شوب، ظني الدلالة، اي فيه فسحة للتوسعة، وفهم المعنى من القرائن الحالية المحدقة بالنص والمتبدلة بتبدل الاحوال والمعارف، القرآن، هذا النص يساوي بين المرأة والرجل ويفرز خصوصياتهما التكوينية عن العموميات المشتركة، من دون ان يرتب على هذه الخصوصيات اي فارق في الاعتبار والمكانة.

ولا يبدو في النص او في النصوص القرآنية اي انحياز، سوى كلمة واحدة في الآية 34 من سورة النساء، وفي مورد في منتهى الضيق، يشتم منه البعض، إن اراد ، بإملاء من ذكوريته او رغبة في الاعتراض، وتسجيل المأخذ ، رائحة ميزة محدودة للرجل او للزوج على الزوجة، في حين لا تنهض الفوارق في الارث مثلا دليلاً ساطعا على التفريق او التفاضل، اذا ما قرئ التصور القرآني لشأن المرأة كاملا فيما اعطي لها وفرض عليها من اعباء حتى ان الفخر الرازي يجري الحساب ويحكم بأنه " لا فضل البتة" اذا ، فالحل بعد تحرير محل النزاع في المسألة ، مسألة العنف ضد الزوجة ، وهو محل في منتهى الضيق ، هو مجتمع ديمقراطي تحت سقف الحق والقانون، ومن دون أوهام ديمقراطية ، أي ان الديمقراطية نسبية وليست وصفة جاهزة تقدم لكل شعب من الشعوب بصرف النظر عن تركيبته الاجتماعية وذاكرته وحساسياته وأنظمة قيمه وعلائقه ، وفي هذا الكلام لا أجاوز الفقه الاسلامي ولا أتجاوزه ، إذا ما اتفقنا على انه فهم للحياة ، يرقى بالنص الى مستواها ولا يصادرها به ليقتله ويقتلها . وإذا كانت ثنائية الوضعي والشرعي مصدر إشكالية في الفقه والفقيه ، فإن فرضية توخي العدل والأنسنة ، في القانون الوضعي إجمالاً ، من شأنها أن تضيق الشقة بين الفقيه والمشترع المدني أو الوضعي ، بالتماس التكييف الفقهي الحقيقي لا التلفيقي لكثير من الأحكام الوضعية التي تمليها وقائع الحياة ، حتى لو كانت ظاهراً مباينة للمبنى الفقهي ، لأن تنقيح المناطات في الأحكام وتحقيقها في الوقائع يعفي الفقيه من خطر الوقوع في مخالفة الشرع ، إذاً ، فلا خوف من الفقهاء ، لا خوف إلا من نموذج منهم أصبح خطره قليلاً ، لأنه يرفض أن يحرك سواكنه فيتخلّف عن المسيرة ويختنق صوته .

الخوف .. من أين يأتي ؟

ولكن هناك خوفاً يأتي من جهة المهمومين بالحرية والعدالة والمساواة والمشاركة بين الجنسين من دون افتئات على الخصوصات التكوينية وخصائصها الوظيفية . هذا الخوف سببه العجلة والترتيب المتسرع لسلم الأولويات ، مما يتمظهر أحياناً بطلب العدل بالجور وباستبدال عنف بعنف . ومن منا لا يتحفظ أو لا يرفض العنف العلماني الذي يتذرع بالعنف الديني ويتجاوزه كماً ونوعاً ؟.

إن تحديثنا لأنماط علائقنا ، يجب أن يكون في منتهى الحذر والحيطة من أن يصبح تسويغاً وغطاء للاستبداد العلماني ، الذي شوّه الحداثة والمعاصرة بالشمولية أو ما يمكن اعتباره في بعض الحالات ديناً أرضياً علمانياً متزمتاً بل ومتطرفاً ، إذا ما كان لنا نقاش مثلاً مع التجربة التونسية لا يختزله الرفض والإدانة ، فإننا نتساءل عما إذا كانت هذه التجربة قد انحصرت في حدود التبديل في قوانين الاحوال الشخصية من دون أن تؤدي أو تكون ثمرة تطور على طريق الديمقراطية ، لتبقى التجربة تحت عين الحاكم ويده وفي جملة أدواته السلطوية ؟

 

نلغي امتياز الرجال بالغاء الحرب

العنف ضد الزوجة ؟ حسنا، ولكن لماذا نحمّل الشرع مسؤولية ذلك؟ هذه مسألة في التاريخ وفي الاجتماع، ولنذهب معا الى ورشة لمنع العنف الداخلي، منع الحرب، لأن الحروب العنيفة تعيد انتاج العنف التفصيلي، اي الذي يطال كل شيء، واكثر من يتعرض للعنف في الحرب وللعنف المتولد عنها في السلم هي المرأة عموما والزوجة اولا ، اذن دعونا نلغِ امتياز الرجال في الحرب بالغاء الحرب، حتى لا يعم الترمل وتزداد اهلية الذكر للتسلط، لأنه شارك في قتال العدو الذي قد يكون جاره في المنزل الآخر، وشريكه في ممارسة العنف الاضافي على زوجته.

ليس في مأثورنا التأسيسي الاسلامي سوى نص قرآني واحد يدور حوله الكلام عن العنف الزوجي هو الآية 34 في سورة النساء "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما انفقوا من اموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله، واللائي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن اطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ان الله كان عليما كبيرا".

ان ظاهر الآية هو حرمة النشوز لا وجوب الطاعة، اذ لا امر فيها بالطاعة للمرأة، لأن المخاطب هو الزوج بتحديد الاجراءات التي تباح له، ولا يجب عليه ان يتخذها بناء على النشوز، اي المخالفة في خصوص الشأن الزوجي، وللزوج والزوجة ان يؤاخذ كل منهما الآخر على امور معينة في السلوك الديني او الحياتي، من دون ان تكون داخلة في الشؤون الزوجية، اي فيما يترتب على الزوجة تجاه زوجها بعنوان كونها زوجة، لا باعتبارها مكلفة كالرجل بالعبادات واحكام الشرع العامة، حيث تعظه ويعظها بمقتضى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، والامور الداخلة في الشؤون الزوجية لا تتعدى حق الاستمتاع الجنسي، من دون المساكنة، الا باعتبارها من لوازم الاستمتاع بدليل ان للزوجة شرعا ان تشترط في العقد سكناها، اذاً فالنشوز لا يتحقق الا بالامتناع عن الامتاع الجنسي . وقد وقع فقهاء في القرن التاسع عشر في الثقافة المحيطة بهم فتعدوا بالحق الى حق الطاعة مطلقا بحيث لا يبقى من شخصية المرأة وأهليتها شيء.. ومن دون أي تقدير إنساني أو شعوري أو جمالي لشأن الجنس لديها أو رغبتها الملغية برغبة الرجل أو لذتها المختزلة بلذة الشريك الذكر الذي يكون قد رغب من دون إلزام له بانتظار رغبة الطرف الآخر.


مسألة القوامة، ماذا عنها؟

وهنا اود ان اقف عند مسألة القوامة او القيمومة "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض بما أنفقوا من أموالهم" (النساء – 24)  ظاهر الآية، وهو حجة، يفيدنا بأن القوامة أو القيمومة ليست مطلقة للرجل ولا هي مطلقة بذاتها، بل مشروطة او مقيدة بالفضل، اي زيادة الاهلية، والتي ليس بالضرورة ان تكون تكوينية، توجب علواً او دنوا بين الجنسين، بل هي تاريخية مكتسبة له في تاريخ ما لأنها متاحة له ، ويمكن في تاريخ آخر أن تكتسبها المرأة أو الزوجة لأنها تصبح متاحة لها .. ولا بد من ملاحظة ان القيمومة في الآية هي للرجال على النساء لا على الأزواج ، فكأنها قيمومة اجتماعية محكومة بمعطيات ملموسة قد تتغير .. أي انها قد لا تكون ثابتاً قانونياً نظراً للتغير المحتمل في الشروط الإجتماعية التي يتغير بمقتضاها موضوع الحكم الذي يلحق موضوعه ويطابقه في متغيراته ما يعبر عنه فقهياً بالسنخية  .

واذا ما كان الانفاق قوام القوامة في لحظتها التاريخية بحسب الآية، فان اهلية المرأة للعلم والعمل والكسب والتملك، واحتمال عدم قدرة الزوج على ذلك، يعني ان الرجل يمكن ان يقع في دائرة انفاق الزوجة، مما يعني امكان انتقال القوامة من الرجل الى المرأة كما هو واقع جزئيا الآن، الى ذلك فان تاريخية النص، اي قراءته في تاريخه، من دون ان تكون هناك رغبة في تعطيله او الغائه، وان كان هو يتعطل لكونه مشروطاً او مقيدا، بزوال الشرط او القيد، او لأن موضوعه تبدل بتبدل الزمان والمكان والحال، اي طرأت عليه عناوين جديدة فنقلته من حكم الى حكم، هذه القراءة تفيد ان الفرص، في زمن الوأد، لم تكن تتيح تحقيق اي ذات او موقع الا بالتملك، لا بالهوية، لأن الهوية ساكنة، ومن يعط يأمر، اي يمتلك بما يعطيه من يعطيه بنحو ما، فيأمره اي يقوم عليه. يقول علي (ع): "استغن عمن شئت تكن نظيره، واعط من شئت تكن اميره، واحتج لمن شئت تكن اسيره"، ومع ضيق الفرص في الجاهلية، حتى على الرجال (وكان الرجال يوأدون ايضا او يتركون ليموتوا جوعا في الصحراء) كان من الصعب ان يكون للمرأة هذه الشأنية، وكان يمكن للشريعة ان تقلب المعيار دفعة واحدة، ولكن الانقلاب ينقلب عليها. اذاً، فالاقرار بالواقع مع النزول به الى ادنى المستويات، واغناؤه بآليات التعطيل من جهة والتطوير من جهة، هذا كلام مني، ولكن الرسول (ص) لم يقله، بل نهى عن ضرب الزوجات لأي سبب، ولكنّ اهل مكة المهاجرين من قريش، وهم اهل قرية هي ام القرى، عندما انتقلوا الى المدينة، كانوا يتعاملون مع نهي النبي (ص) من دون ان يروا فيه الزاماً يزعج مسلكهم المستقر الموروث في ضرب الزوجة، الى ان وجدوا اهل المدينة على غير حال، فانتقلت عدوى نساء المدينة الى نسائهم فاستشاطوا غضبا وكان غضبهم سبباً من اسباب نزول الآية مع بقاء الرسول، صلى الله عليه وسلم، في سلوكه وقوله وفعله على حاله من المعارضة الهادفة الى التغيير، ولكنها اتخذت مسارا ارشاديا لأن تشدده فيها يؤدي الى تصلب المخالفين ، الى قناعتي بأن العنف الزوجي ، العنف ضد الزوج أو الزوجة ، لا يقع في منظومة الفكر الديني الواقعي ، أي في الدين كما هو لا كما نعرفه ونمارسه في فترة تحت وطأة الأعراف السائدة ، إلا في بعده الإناسي ، فإن تقديري أن خبرة الرسول (ص) مع السيدة خديجة ، قد أيدت قناعته ورسختها ، فقرأ المسألة قراءة هي أقرب الى الإعتدال والتوازن بين استقواء قريش على الزوجات واستقواء نساء المدينة على الأزواج ، وهنا يحسن الإلتفات الى أن مدنية المدينة (يثرب) ربما تكون متأتية ولو نسبياً من تعدديتها الدينية ، أي الثقافية والإجتماعية والسلوكية في المحصلة ، وقروية مكة متأتية من اجتماعها النمطي أو الأحادي ، ومن طغيان التجارة على أسلوب إنتاجها ، والتجارة وقتها كانت تعني غياب الرجال في رحلتي الشتاء والصيف والمزيد من حضور الغرباء في مواسم الحج اليها ، ما يقتضي حسب مقتضى الحال من حجب للمرأة أو الزوجة خصوصاً واستخدام قوة الزوج الذكورية في تسييده على الأسرة ومن دون مشاركة ، إلا في حدود ما تمليه خصوصيات في الزوجة تعود الى نسبها أو جمالها أو قوة شخصيتها أو وجاهة قوة رهطها .

 

إخلال بأنظمة الدين والدنيا معاً

اذاً، وبناء على كون القوامة التي تترتب عليها اباحة الضرب في النشوز، مسألة مشروطة، فان شروطها مفتوحة على اي تطور في مستوى العلائق الزوجية من ضمن سياق التطور الاجتماعي العام، بحيث تدخل المتغيرات في اعادة تحديدها وتجديدها وتوزيعها او نقلها من طرف الى طرف على مقتضى الاهلية المكتسبة... من هنا، وبعيدا عن مسألة الانفاق، ومع الفرص المتزايدة لشراكة المرأة عموماً ومنها الزوجة ، في الحياة العامة بسبب تمكنها أو تمكينها ، أي انتزاع حقوقها بيدها أو منحها هذه الحقوق ، بالمتغير  من علمها وعملها تحت سقف القانون العام، يتحقق لدينا احتمال ان تكون الاهلية متغيرا او متحركا لا يعدم تكييفا في الشرع او تكيفا معه، مما يعني الغاء حصرها بالرجل، مع التنبيه الى ان المباحات حتى لو كانت السلطة التي تمنعها او تحرمها سلطة جائرة او مستبدة او كافرة، فان الالتزام بأمر السلطة فيها ليس حراما، ومن هنا فان الفقهاء الذين يدينون الدولة التركية او التونسية في منع تعدد الزوجات لا يمكنهم ادانة التوانسة والاتراك الذين يلتزمون بالقانون.

انه خلاف العدل الالهي والانساني ان يقوم الادنى اهلية على الاعلى اهلية، حتى لو كان هذا الفارق أو المؤهل مكتسباً لاحقاً ، أي ان الزوجة قد استطاعت بجدها أن تكتسب المؤهل بعد الزواج ، في حين أن الزوج كان قد اكتفى بما عنده أي ما أهّله للقوامة بداية .. ولعل حصر القوامة بطرف من دون طرف ودائماً يقع في موقع المخالفة أو الإختلاف مع العدل الإلهي لما يعنيه من إخلال بأنظمة الدين والدنيا ومقاصد الشريعة التي لا تخرج عنها في المحصلة .. أما العلائق الزوجية ، الأشد خصوصية ، علاقة الاستمتاع المتبادل ، الذي هو حاجة وحق للطرفين من دون تفاوت في هذا الحق أو ميزة لأي من الزوجين على الآخر ،هذه العلائق المتبادلة والمتكافئة والمتعادلة والتي لا بد أن تكون عادلة ، تجعل للنشوز معنى مزدوجاً يؤكده القرآن الكريم عندما يتحدث عن نشوز الرجل ، وإن كان الذي يتبادر الى أذهاننا الآن، من لفظ النشوز مجرداً ، هو نشوز المرأة وحدها ، وكأن لفظ النشوز قد وضع في أصله اللغوي لنشوزها رغم أن هذا التبادر يخالف المنطوق القرآني الصريح في المساواة ، ما يعني انه حتى في تلقينا للقرآن ، وظواهره غير الملتبسة ونصوصه المحكمة ، نكون خاضعين لمتغيرات ثقافية وأعراف تأتي من جهة الإجتماع لا من جهة الدين ، في حين أن هذه الأعراف والمفاهيم غير المطابقة للدين ، والتي نجعلها ديناً موازياً أو مخترقاً للدين أحياناً كثيرة ، انما تأتي الى الإجتماع من مكان آخر ، من القبيلة التي تميل عادة الى أن تحتكر بناء عمارتها العلائقية وأنظمة قيمها من دون أي اعتبار لما يكتسبه أفرادها من معرفة ومواقع متجددة ، عوداً على بدء نقول : فيما يعود الى مسألة الإستمتاع المشترك بين الزوج والزوجة ، غاية الأمر أننا بحاجة الى فقه أي فهم أكثر لهذا الحق المتأتي من حاجة تكوينية في المرأة والرجل ، ولعل الخلل الذي وقع فيه بعض الفقهاء ، قد أتى  من حصر حق الزوجة في مجال الاستمتاع  والذي يتحقق نشوز الزوج على عدم القيام به ، أي وجوب المواقعة على الزوج للزوجة كل أربعة أو ثلاثة أشهر على خلاف ، بناء على استنتاج الخليفة عمر بن الخطاب بعد مساءلته لشقيقته عن الغائب عنها زوجها لأسباب عسكرية ، وعن مدى قدرتها على الصبر .. وإذا ما تعدينا هذا التحديد فإن كونه حقاً للزوجة أو الزوج مرتبط بالتكوين والتعبير عنه بالرغبة التي لا زمان ولا موعد لها ، وضرورات السفر والحياة والإجتماع القصوى .. هذا إذ ما كانت المقاصد في الشرع هي الأولى .. وكان الحفظ هو ملتقى هذه المقاصد ومآلها ، حفظ العقل والدين والنسل والمال ، الخ .. ومن هنا فإن من يجتهدون في جعل النص فضاء للمقاصد يحمون هذا النص في مقابل الذين يفصلون بينه وبين المقاصد أو لا يذهبون إليه من المقاصد ، فيعطلون النص والمقاصد معاً .. وهنا تواجهنا أمزجة بعض الفقهاء ، شديدة الخصوصية والأقرب الى الشواذ أحياناً ، التي تملي عليهم تحديد حق الزوجة في مدى وكيفية الإستمتاع ليتبين أن هذا الحق قد ألغي نهائياً لصالح الذكورية الأنانية والقاسية .

وإذا كان الجنس يسمى حباً في بعض اللغات ، فإن لغتنا العربية ، لغة فقهنا ، حسب الفرض لم تقصر في حشد الجنس بالحب والأدبيات النبوية في هذا المجال كثيرة جداً ومترعة بشفافية الرسول البشر .. أي الإنسان الكامل . إذن فالحب تبادلي ، والشفافية فيه ، والانسجام القائم على الثنائية ، ربما كانت المرأة أو الزوجة هي علامته الأولى لأنها الطرف الأشد رقة وحساسية ، ومن هنا فإنه لا بد للزوج ، الزوج بما هو مثل في اللغة ، أي زوج وزوجة ، أي تكامل ، أن يحذر من تحويل متعته الى آلية مادية صرف وكأنها أداة صيده أو عمله أو وظيفته اليومية .. وعليه فإنه لا بد أن يكون مراً عسيراً على الإستساغة أن يرى بعض الفقهاء أن حق الزوجة بالمواقعة إلزامياً لزوجها بعد أربعة أو ثلاثة أشهر من الغياب ، حتى لو كان للسياحة ، هو الإدخال !! أي للحظة وريثما يكون الرجل قد ألقى حمله واستراح من عبئه .. هذا والمأثور عن الرسول (ص) تشديده النكير على من يتعجل أمره مع زوجته .. ويحذر من أن ذلك ربما يكون نوعاً من دفع الزوجة الى البحث عن إشباع حاجتها من طرق أخرى ، لأن هذه المعاملة تبلغ بأشواقها الى الحب حالة الذروة ، أي توقظها ثم وفي ذروة اليقظة تقطعها !!!.

إذن .. وبالعودة الى مسألة القيمومو أو القوامة ، يمكننا القول من دون افتئات بل انتصاراً للشريعة ، انه ليس هناك من فضل ثابت

للرجل على المرأة ، بلحاظ ان الفضل يأتي من جهة التفاوت في الأهلية ، وجزئيات النص القرآني التي تشعر بالمفاضلة محكومة بالكليات التي تساوي بين الرجل المرأة والزوج والزوجة ، وهذا ما يقتضيه المنطق والمنهج العلمي في التعاطي مع النصوص المختلفة ظاهراً في الموضوع الواحد ، هذا ، علماً بأن هناك أمراً قلما يلتفت اليه من يقرأوون آية القوامة ، وهو أن انها معطاة للرجال على النساء ، وليس للأزواج على الزوجات ، وكأنها مسألة اجتماع عام لا تتعاطى مع مسألة العلائق الخاصة أو شديدة الخصوصية في هذا المجال (الزوجة) . ولعله من الواضح ان تعميمها للرجال على النساء ، أي للنوع على النوع بكل مندرجاتهما ، أي مطلقاً ، يتنافى مع أبسط مباني الشرع وقواعد الفقه .. الى ذلك فإن هذا التعميم محال واقعاً .. وهنا لا تعدو الزوجة أن تكون مصداقاً للنوع النسوي ، يترتب عليها ولها ما يترتب له وعليه مشروطاً بشروط ومن دون إطلاق ، ومن دون تفاضل تكويني ، أي ان التفاضل تاريخي ومتغير والقيمومة تابعة له مترتبة عليه ، فهي متغيرة أو متنقلة بناء عليه أو مشتركة بناء على التكفاؤ بين أهلية الزوج وأهلية الزوجة .

عدم التفاضل ، أي عدم كون فضل الرجل على المرأة مطلقاً ودائماً ، يصرح به الفخر الرازي كما مر ، ليمسي التفاضل تفاضل اختلاف وتكامل ليس الا. وقد صرح القرآن في سورة مريم بأنه ليس الذكر كالانثى، واذا كانت مريم استثناء في عصرها فان عصرنا لا بد ان يوسع هذا الاستثناء الى مستوى التعديل في القاعدة جذريا، ومن دون انقلاب، وأنا لا أنصح بالانقلاب، لا يجوز ان تكون حرية المرأة او تحقيق ذاتها بذاتها مسألة ثأرية ، اي لا يجوز استبدال الانثوية بالذكورية، ان الاعتدال هو الحل والتركيب هو المثال، والوفاق لا الغلبة.

وإذا ما كانت غلبة الرجل عل المرأة أو الزوج على الزوجة متحققة لظروف تاريخية، فهي نسبية وخطأ الرجل انه اعتبرها مطلقة ورتّب عليها نتائج مطلقة ، ولا يجوز تصحيح خطأ بخطأ ، أو غلبة وهمية مطلقة بغلبة وهمية مطلقة ، لأن ذلك يؤدي بنا الى تبادل الخسائر لا الأرباح ، ومن هنا خوفنا من (الجندر) الذي بدأ تطبيقه الإنفعالي والقاسي في الغرب – مصدره – يثير مخاوف النساء من ذوات العقل والحساب  خوفاً من انقلاب عنف الزوج على الزوجة الى عنف للزوجة على الزوج ، ما لم يخل أي تاريخ أو أي مجتمع من مقدار منه بسبب ظروف خاصة ببعض الزوجات وبعض الأزواج أو بسبب موقع المرأة في دورة الإنتاج الإقتصادي .  وهذا يعني ان احتمال خطر تحول العنف من طرف الزوج الى طرف الزوجة احتمال قوي وقد أخذنا أخيراً نسمع ونشهد علامات واضحة على هذا التحول المتسارع .

وفي المحصلة ، لا مصدر  حقيقياً في الإسلام للعنف ضد الزوجة ، وإنما هي مسألة تاريخية ، وليس أدلّ على تاريخيتها من كون ترجيح العنف فيها على اللطف ، قد قويت شوكته في القرنين الأول الثاني ، قرني الحريم ، أحد نواتج الفتح والتوسع الذي اختلت في كثير من التعاملات مع نتائجه صورة المقاصد الشرعية بنحو ما ، وإذا ما كان الخلل ناتجاً من إخلال الدولة بدورها ، فإن العلاج يأتي من الدولة ، أو منها أولاً، أي من إلتزامها بموقعها الحاضن والجامع والرادع .. واحتكامها الى معايير المصالح المفاسد ومقاصد الشرع ونظام القيم الدينية فيما يتصل بالشأن العام وبشأن المرأة المتصل به قطعاً وفي العمق .

لقد كان من الممكن للفقهاء أن يطوروا وعيهم الفقهي ويحولوه الى سلوك عام لو أن إرادتهم في الإستقلال المعرفي عن السلطة كانت أقوى ، ولو أن رغبتتهم في عدم الإذعان للسائد اجتماعياً كانت حقيقية ، ولو أن الدولة أو السلطة القديمة ، والحديثة أبقت للمجتمع الأهلي ومن ضمنه وفي أساسه الفقهاء العضويون ، أي المندمجون على مسافة موضوعية معرفية بينهم وبين الاجتماع العام لا امتيازاً ، بل كوظيفة معرفية ، يبقون ، أي الفقهاء ، على مكانهم ومكانتهم ودورهم في معالجة شؤون الأسرة والأحوال الشخصية عموماً ، لأنهم لم يكونوا يتصدون لها ولغيرها الا بشرط الإستقلال والحرية أولاً ، لأن الإملاء والإذعان ليس اجتهاداً ، ليس فقهاً ، والمذعن ليس فقيهاً ، وإنما هو مدون لما يدعى انه فقه وليس فقهاً ، وهذه لا يعني تزيين الشغب بل تشجيع الإعتراض والمسائلة للذات والآخر سواء كان هذا الآخر دولة أو مجتمعاً .. وبالمساءلة يتعزز الحوار وبالحوار يتعزز الإبداع أي التكييف العلمي المقاصدي والمعياري للوقائع المتحركة ..

وإن من أهم مصادر الخطر الراهن على عملية الإستنباط الفقهي هو ما تحرص عليه دولنا الحديثة التي تميل الى استغلال الدين الشعبي أو الشعبوي في تغطية قصورها  وتقصيرها ، في حين انها تسهل عملية التساهل في شأن العلاج الشرعي لمسائل الحياة الأسرية الزوجية من خلال تسهيلها أو تساهلها المفرط في شروط القاضي والقضاء الشرعي الذي أدخلته في سياق أنظمتها الإدارية ما لا اعتراض عليه ، ولكن الإعتراض ينصبّ على كيفية التعامل الزبائني معه  في حين ان ما يمكن أن يعتبر من إفرازات المجتمع الأهلي وما قبل الدولة الحديثة على الصعيد الفقهي اليومي ، أي العلاجي ، أي تصدي الفقهاء المجتهدين العدول للمسائل الميدانية ، كان أكثر علماً وأخلاقاً والتزاماً وجدوى وتأميناً لسلامة وأمان المجتمع واستقراره . ما يعني ان الدولة الحديثة قد نظمت الفوضى - أي جعلتها نظاماً – لا القانون أو الحقوق .

ختاماً .. أرجو أن يكون اعتراضنا منصباً دائماً على المسلك الوضعي في التشريع ، من دون أ، أكون ميالاً أو محبذاً أو موافقاً على السلبية المألوفة في لسان الإسلاميين حول القوانين الوضعية مطلقاً .. أي أنني أتحفظ على المسّ بالبعد الإلهي أي الروحي للأحكام ، وأن يبقى تحصين الإيمان أول أهدافنا ، علماً بأن البعد الإلهي في معناه الأخير والحقيقي هو البعد الإنساني وشرط الحرية .

يقول رسول الله (ص) " لا تضربوا إماء الله" ونحن ننصف شرعنا وأنفسنا إذا ما قرأنا الشرع قراءة مقاصدية من دون وصاية لأحد علينا والمشاركة هي غير الوصاية طبعاً . هذا وليست مسألة (تأديب!!) المرأة بالضرب شأن المسلمين فقط ، وليست محصورة في أهل المدر والريف دون أهل المدينة .. على ان العنف ضد الزوج مسألة مطروحة وفي الغرب خصوصاً .. ولقد عارض بعض فقهائنا من قال منهم أن الضرب غير المبرح هو الذي لا يهشم لحماً ولا عظماً .. وإن كان لا يهشم الجسد فإنه يؤلم الروح ويجرح النفس ويهشم القلب .. وقال أولئك الفقهاء : بأن الرجل أو الزوج يلف يده بمنديل أو يضربها بمنديل كأن الضرب دعابة ، إظهار غضب أو عتب أو عقوبة ودودة .

ويبقى السؤال قائماً حول موقع المرأة في هذا المشهد الرومانسي .. بين معاقِب ومعاقَب ، ونعومة المعاقب ولطفه ولطف العقوبة ، ليس جواباً شافياً .. وهو جواب قاسٍ بقفاز من قماش أو كلام ، فيه إشارة لا تخفى الى أن الزوجة موضوع للزوج.. وفي الشريعة الإثنان موضوع للحكم الذي يجري خلفهما وهما يحفظانه عندما يكون اجتهاداً علمياً عادلاً في حقهما .