هناك أسباب عديدة، تسمح أو تستدعي، أن يخرج اللبناني خاصة وكثير من العرب ممن تحرروا من المسبقات في رأيهم ورؤيتهم وذوقهم الجمالي، معجبين بالشعب الإيراني، في حيوياته وطرق حياته وأنماط علائقه وانتظامه العام، وحتى تركيبه الثنائي المحكم بين الظاهر والباطن، وما يحمل من موروث ثقافي، وبنية لغوية (فارسية) تترك ظلها على لغة الآذريين الأتراك (22 في المئة من الإيرانيين) والكوردية في حدود، وتخترق عربية عرب خوزستان على غير استعداد او عناية بحساسية العربية، وتكثر الكوارث في أساليب التعبير الفصحى والعامية في خوزستان وتصاب اللغة اليومية بهجنة اصعب من العُجمة. هذا بسبب فقرها (الفارسية) النسبي بالمفردات، واضطرارها الذي يمنحها جمالية وصعوبة اضافيتين والتباسات محيرة للأجنبي الذي يقرر أن يستسهلها ويدعي العلم بها بسرعة.
عوداً على بدء مع الاعتذار عن ضعفي أمام جاذبية المدخل اللغوي الى فهم الاجتماع الإنساني، أقول، بأن مدة إقامتي غير القصيرة، وغير الطويلة، في إيران، عاملاً في الحقل الثقافي والسياسي، متواصلاً مع الفضاءات الاجتماعية المتنوعة بين المدن والأرياف، استدعتني أن أتحرك أو ألعب بالمعنى المسرحي، على المسافة الإلزامية الواصلة بين اللغة والناس، أراها فيهم وأسمعها وأراهم فيها وأسمعهم، وخرجت من سياحتي المعرفية في هذا الصِّقْع هناك لسنوات، بإعجاب ومحبة للاجتماع بشرط عدم الغوص في تفاصيل التفاصيل لئلا أضيع. وللغة الفارسية بشرط العناية بتفاصيل التفاصيل لكي أستمتع بما أكتشف، لأن المعنى في تفاصيل اللغة أثناء تبادلها وتداولها، يبدو أغنى وأعقد وأجمل وأصفى ماء وأنقى هواء وأطيب. ثم ان التفاصيل تغريك، في لحظات متكررة، من دون أن تتعلم أو تعتبر أو تكف عن الوقوع في هواها أو حبائلها، تغريك بشعور خلّبي ساحر، بأنك أصبحت إيرانياً، أصلاً وفصلاً، ولم يبقَ عليك إلا تغيير اسمك من هاني الى ماني.
وللذكرى، أذكر أني بقيت لمدة سنة ونصف عاملاً ثقافياً في مكتب في مبنى رئاسة الجمهورية، أيام رئاسة السيد علي خامنئي، وكان للمبنى مدخلان: مدخل يمر على مقر مجلس الوزراء، والأوامر فيه بتفتيش الجميع دائماً وبدقة، بسبب الأوضاع الأمنية (تفجيرات واغتيالات كان يقوم بها - أواسط الثمانينيات - «مجاهدو خلق» الذين تغيرت تسميتهم الرسمية والشعبية بعد انكشافهم الى منافقي خلق) وكان التدقيق أحياناً يعرقل العمل، أو يأكل جزءاً من الوقت فيؤدي الى التأخير عن الدوام المقدس لدى الإيراني على عكس المواعيد التي يقل من يلتزم بها... فيلجأ من يكون بإمكانه الى المدخل الآخر، مدخل رئاسة الجمهورية، حيث يكتفي الحرس هناك بكتابة لائحة بأسماء العاملين والموظفين الدائمين فلا يخضعون للتفتيش، ويخضع الطارئون له. وكانت مجموعة الحراسة تتغير كل أسبوع لأسباب أمنية بعد أن ظهر أن أكثر عمليات الاغتيال والتفجير في مراكز القيادة يقوم بها الجهاز الأمني المولج بالحماية، كما في المجزرة التي حدثت للحزب الجمهوري الاسلامي التي استشهد فيها إثنان وسبعون من القيادات العليا والكوادر من بينهم السيد محمد حسين بهشتي رئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس الحزب الحاكم وقتها. وكان مدبر المجزرة والداعي الى اجتماع غير مقرر، مسؤول أمن المقر مسعود كشميري. وحادثة تفجير مكتب رئيس الجمهورية محمد علي رجائي أثناء اجتماعه مع رئيس وزرائه الشيخ محمد جواد باهنر، حيث كان مدبر العملية مسؤول أمن الرئاسة مسعود كُلاهي، وقد شيع المسعودان مع ضحاياهما بالورد والدمع، ليتبين لاحقاً أنهما قد وصلا سالمين الى باريس وضيافة مسعود رجوي... كل منهما في موعده.
... وفي كل مرة، كنت أملي عليهم اسمي وأمضي مطمئناً الى أنه تمت المحافظة على الأحرف ونقاطها "هاني فحص"... ومرة سبقتني عيني الى حركة قلم الحارس على الدفتر فتبين لي أن هناك مفارقة، فرجوت المسؤول الأعلى في أمن الرئاسة، أن يريني دفتر التسجيل بمفعول رجعي لمدة أشهر... وجلست معه فقرأنا مفارقات كتابة اسمي (هاني، جاني، ساني، ماني، جالي، حالي، خالي، تالي، خاني، حاني، حامي، هامي، سامي، هايل، فهس، فص، حمص، فس، مهس، محص، حص، صحف، فصح، حفص، فهد، فحل ...الخ) وضحكنا كثيراً بالعربي والفارسي.
وهكذا كنت بحاجة الى سنوات، ولولا عودتي الى لبنان، لاحتجت الى عشرات السنوات، لكي أقتنع، ولا أقتنع، بأن المغايرة ليست عيباً ولا نقصاً لا فيك ولا في غيرك، بل هي إذا ما رافقها وعي وعلم وذوق اصبحت مصدر إبداع وحيوية متبادلة.
ولا يكفي أن تكون رخواً لأسباب ريفية أو مذهبية أو ثورية أو انتهازية أو ميل مبالغ فيه الى الاندماج السريع أو الانصهار التام أي التلاشي، في المحيط الذي تفد اليه من الخارج مهما يكن مغرياً ومهما تكن مثقلاً بالغربة عن الوطن ومحبطاً أو حالماً أممياً وكأنك محموم بوطن خرافي جميل عابر للحدود بسبب غياب دولتك وقلق وطنك وكيانك بفعل طوائفك وأحزابها، لأن الذين أنت فيهم لعام أو عشرة أعوام أو أكثر، لا يروق لهم، ولأسباب منطقية جداً، أن تقحم حالك في حالهم، لأن رغبتك المحال في نقل مورثاتهم الى جيناتك، نوع من السرقة، لا ترضيهم ولا تفيدك، بل تنفرهم منك، وتفقدك إنيتك التي لا سبيل الى الحفاظ عليها وتنميتها والرضى والإبتهاج بها والدأب على تمرينها على السعي لتحقيق شرطها في الآخر أو المختلف، إلا بالقبول العميق بها، وتعريضها الدائم لفضاءات أخرى، لهواء وماء وشمس وقمر آخر، فتكتسب ألواناً ونكهات إضافية، وتبقى على طعمها وطعامها... المختلف كما يختلف طعم العدس المزروع في تربة بيضاء عن طعم العدس المزروع في تربة حمراء، في قرية واحدة.
وتذكر، أنت أيها الكائن المفتون بإضافة الأبعاد المكتسبة الى هويتك المركبة والمحسود على ذلك، أنت يا أنا... انك، همست في آذان أصدقائك الإيرانيين، أكثر من مرة، مبدياً فرحك بحالة تحصلت فيك أو تحصلت عليها، كما تتحصل النحلة على الرحيق، أو زهر اللوز على اللقاح أو قرية النمل على سبلة حنطة أو بلبل النخل على لحن جديد أو الوردة على حفنة من ندى، أو العروس على جنين، وتشرع في الوحام الصعب والعذب... وتتسع حدقتا عين صديقك عندما تخبره أنك أصبحت إيرانياً، وهو يحبك كما أنت، فلو أصبحت إيرانياً حقاً ربما شعر بالخسارة والخيبة، لأنك تتحول الى رقم بلا إضافة، والمطلوب أن تبقى عربياً لبنانياً عاملياً لتكون معنى إضافياً ممتعاً، ولأن لديه (وقتها) سبعين مليون إيراني، وليس لديه إلا عربي أو لبناني واحد موصول به، ويذكره بأيامه في النجف قبل طرده منها على يد الأجهزة البعثية الصدّامية، بعدما طرده سافاك الشاه وحزبه... حزب البعث ايضاً (راستاخيز)... وبقي متردداً بين هامبورغ وبيروت معنياً بفلسطين ومقاومتها منحازاً أكثر الى الحركة الإصلاحية مبكراً بعد انتصار الثورة وحتى الآن ودخول سجن إيوين مع كريمته، فما حاجته الى إيراني ملفق، لن يكون إلا مشوهاً ومشوِّها وعبئاً، لا مصدراً للشعور بالمغايرة التي تغري بالمقايسة والمقابسة. ويعمد صاحبك في الجلسة ذاتها أو السهرة الى محادثة جلسائه بلغة إيرانية معقدة تستعصي على فهمك، وفي موضوع ذي خصوصية إيرانية مكثفة... يبتسم جلساؤه الإيرانيون مندهشين من تحويلته في الحديث، ولكنه يجبرهم على كلام طويل، فتلجأ الى خيبتك وصمتك عن عجز لا على الفهم فقط، بل على سماع الكلمات وتمييز الأحرف... وبعد ساعة أو أكثر... يلتفت صديقك اليك بحنان المنتصر على حبيبه أو حبيبته ويطلب منك أن تتحف السهرة بقصيدة للسياب أو أدونيس أو نزار أو الجواهري أو قصيدة عامية لمظفر النواب من ديوان (للريل وحمد) أو قصيدة عامية أو فصحى من سعيد عقل أو عاصي أو ميشال طراد أو طلال حيدر أو جوزف حرب.
ومرة عدت من سهرة كررت فيها خطأي وكرر فيها صاحبي موعظته العملية فاتعظت... ولكن الحب أحياناً يختلط برغبات جامحة تجعله أقرب الى الغباء، بما هو الغباء تكرار للخطأ عينه مرات ومرات أو كما يقول آينشتاين (فعل الشيء نفسه مرتين بالأسلوب نفسه والخطوات نفسها وانتظار نتائج مختلفة)... وكتبت في دفتري: عزيزي هاني، أرجو أن ترضى بعروبتك ولبنانيتك وجنوبيتك وريفيتك وسمرة وجهك ولثغتك الخفيفة وبحة صوتك التي تشبه الدمعة أو تستنزلها عندما تحب أو تفارق أو تحزن أو تخسر في سوق المعنى... وبعدما تكره وتندم على الكره، ولا تقبلها على مضض، بل قناعة، لأن الإيراني والمصري والفلسطيني والأميركي والبنغالي والصيني، كلهم يريدونك كما أنت، لأن الفائدة المعقولة أو المشروعة منك لا تتحقق لهم إلا إذا كنت كما أنت وكانوا هم كما هم، ولا تعر سمعك أبداً، لأرباب السياسة ومحترفيها، عندما يدعونك الى قوالب هم صنعوها لدنياهم ولهوهم بالجمهور لا لآخرتك أو دنياك، ولمصالحهم الخاصة، لا لمصلحة أوطانهم ومواطنيهم ووطنك ومواطنيك.
عزيزي... كن أنت، وعندما تكون أنت تكون الآخر على أن يبقى الكون كونين، لا أن يتوهم الواحد أنه يمكن أن يكون اثنين، كن أنت... كن واحداً لتستطيع أن تتجلى في المتعدد أو الكثير... كن كثيراً عندما تكون أحداً، وكن أحداً فرداً على فرادة لتكون كثيراً... وهنا، في هذه الكينونة المترادفة أو المتعاقبة تكمن أسرار السيرورة، أي الهوية، التي تأتي فيما تأتي من الجدل الجميل بين الذات والآخر.
أنا أعترف بأني سلكت في إيران الى التعارف والتثاقف المرغوب والمحبوب والمشروع والممكن، طريقاً مسدوداً، لا يصل، ولكني تلذذت بإحباطاتي وخيباتي المتكررة وما زلت حتى الآن، ليس في إيران وحدها بل في مصر والعراق حتى كوردستان ومساكن المندائيين والإيزديين والكلدانيين... وفي مدغشقر التي زرتها وأحن إليها دائماً، وفي سراييفو الآسرة بجمالها الذي لم يتشوه بالحرب لأن أهلها مدمنون عليه... ما زادني حباً للمجتمع والفرد الإيراني المؤذي إن لم تفهمه والمتمم لمعناك إن استوعبته ومكنته من أن يستوعبك... أما الكثرة الكاثرة من اللبنانيين المهاجرين الى قم المقيمين طويلاً بين الدرس والسوق والحضرة والمحاضرة السياسية في اجتماعات الكوادر، فإن لذاذتهم بالعلاقة مع الإيراني اقل، فقد تحول لدى كثيرين منهم، شعورهم بالمغايرة، الى شعور بالغربة واللجوء، لأنهم اصروا أن يكونوا جالية محايدة باردة مذعنة وموالية، من دون أسئلة...