الحريق، والغريق، «والتشنطط» في الطريق...مفردات ثلاث استعرتها من كتاب لسلام الراسي، يصف فيه حال لبنان في أوائل القرن الماضي، بعدما ضربه الزلزال المدمر.اليوم، وبعد مضي قرن تقريباً، استعاد اللبنانيون المشهد كاملاً، ويا لهول الكارثة. أول فصولها، المسلسل الهزلي المستمر، بحلقته الثامنة عشرة، في مدينة طرابلس. آخر فصول المأساة، قيام أحد الموتورين بتهديد وزير الداخلية، وتكفيره.

ليس المتحدث، الذي يبدو وجهاً شبابياً، هو المشكلة، بل ما يمكن أن يصنف بـما هو «فوق وقاحة» بتجروئه على مهاجمة وتخوين وزير الداخلية، المعروف بسعة صدره وتفهمه، كأنه «رجل المرحلة» مع كل ما يتلقاه من إنتقاد، واتهامات، على أن من واجبه أن يكون رجل أمن، وليس رجل تسويات. لكن التجارب تثبت أن التسوية أسهل، خاصة في ظل واقعية سياسية تفرض ما يكون.

من السهل إنتقاد معاليه، لكن أسلوبه في معظم الحالات يثبت جدواه، الأمن في لبنان، ببالغ الأسف، سياسي، تحكمه ديناميات وميكانزمات صراع السلطة والزعامات، ذات الصلات المعروفة وغير المعروفة بالخارج، والتي تصل في بعض الأحيان إلى الولاء الكامل والتبعية. بالتالي، يجبر معاليه على اعتماد سياسة المهادنة، مع عدم قناعته الشخصية بها.

المهم أنك في بلد العجائب، ترى ما لا يرى حتى في جمهورية الموز، مطلوب فار يعقد مؤتمراً صحافياً، مجموعة من المخربين يدعون أخذ «الثأر» على أعين الأجهزة الأمنية، «قادة محاور» تفتح لهم بعض الشاشات التي من المفترض أنها مصنفة في خانة «محترمة» هواها، ليعزفوا على «هواهم» نفخاً بأبواق الفتنة والتعبئة المذهبية والشحن الطائفي.

حريق طرابلس، أسدل الستار على المشهد الثامن عشر منه، مع تصاعد الإتهامات، وخوض حروب إلغاء باردة بين القيادات الطرابلسية، حرب يقوم بها المغرر بهم، والمأجورون، ومدفوعو الثمن، بالوكالة عن مشغليهم، والخاسر الأكبر والأول، ولعله الأوحد، هو هم، والمواطنون الطرابلسيون الآمنون، فبهم تلصق تهمة التطرف، والإرهاب، بيوتهم تهدم، سياراتهم تحرق، ممتلكاتهم تتلف، أرزاقهم تقطع، وفي النهاية، الإتفاق السياسي لا ينالون من «خيره» شيئاً.والأخطر، إن امتد هذا الحريق «ما بعد» طرابلس، العاصمة الثانية، ليصل إلى إنشاء خطوط تماس بين المناطق، أو إلى فرز على أساس طائفي أو مذهبي، لا قدر الله. عندها، يستحق اللبنانيون المثل القائل «لمن لا يتعلمون من التجارب»...

الغريق، فصل أساسي آخر من فصول المأساة اللبنانية، التي مظهرتها السجالات السياسية، والتراشق والمهاترات، أمس الأول، حفلت مواقع التواصل الإجتماعي بالتعليقات والنكات المليئة، إلى الفكاهة، بالمرارة والتألم والمعاناة، القاسم المشترك بينها هو شتم المسؤولين، والتندر عليهم، بعد المأساة الحقيقية التي وقع بها معظم من كان يومها في العاصمة، التي تحولت شوارعها إلى إمتداد للبحر المتوسط المجاور، بنعمة الطبيعة التي تحولت، بفعل النزاهة والشفافية والمحاسبة، إلى أنهار وسواق، جرفت في طريقها مظاهر العمران والمدن، وحولت أزقة بيروت واوتوستراداتها إلى شواطىء.

طبعاً لا أحد يتحمل مسؤولية ما جرى، الحق على الطليان، أو الألمان، أو حتى إسرائيل، أو إيران، أو النظام السوري، أو أن ذلك تم بسبب تعثر ما في المفاوضات الروسية الأميركية، أو من أجل عرقلة جهود تثبيت الإتفاق النووي الإيراني الغربي. أما في لبنان، فلا حاجة إلى إعتذار مسؤول،أو اعتكاف موظف، أو محاسبة متعهد،أو مسائلة عامل. الموضوع، كالعادة، لا مسائلة، لفلفة، وغداً يوم آخر، وربما ذهب البعض إلى إعتبار العزة الإلهية المسؤولة الوحيدة عما حصل. لأن مسؤولينا لا يخطئون، لأنهم شرفاء نزهاء أبرياء عقلاء حكماء فقهاء، كادوا من تواضعهم وبساطتهم ونبلهم وسموهم وشفافيتهم ورقيهم، أن يكونوا أنبياء.

بين مزدوجين، قرأت في بعض وكالات الأنباء أنه في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن، «أصبحت مهمة إيقاظ تلاميذ المدرسة في أحد الأحياء الراقية من مسؤولية بلدية العاصمة»، وذلك «بعد تكرار غياب الكثير من هؤلاء عن المدرسة. وقد تم إقرار هذا الإجراء في حي «أوستروبو» الراقي في كوبنهاغن بعد سنة من خضوعه لتجربة بهذا الشأن، حسبما قالت المصلحة الاجتماعية باربرا لوندكفيست. ويضيف الخبر أن «التجربة خلال عام خلصت إلى أن أعمار ثلث التلاميذ «المستهدفين» تتراوح ما بين 7 اعوام و15 عاما ، وانهم أصبحوا أكثر انتظاما بارتياد مدارسهم. هذا وكان المصلحون الاجتماعيون يكتفون في بادئ الأمر بالاتصال هاتفيا بأولياء الأمور لكي يقوم هؤلاء بدورهم في إيقاظ أبنائهم. لكن المصلحين باتوا يضطرون إلى التوجه بانفسهم إلى المنازل في أغلب الحالات، للتحقق من أن التلاميذ قد استيقظوا فعلا».

«التشنطط» في الطريق، عشرات التقارير انهمرت على وكالات الغوث والإعانة التابعة لدول الإتحاد الأوروبي، أكثر من نصف مليون نازح سوري بخطر التشرد، بعد أن غمرت المياه المنازل غير المؤهلة التي يعيشون فيها، والتي أضحت بحالة يرثى لها. في ظل عدم وجود كفاية في الخيم المجهزة لإستقبال موجات البرد القارس، والمياه الغزيرة.

بالعربي، كفى رجوعاً، كفى إنحداراً، كفى تقهقراً، كفى قهراً، كفى عبودية، كفى استعباداً، عيب وظلم وعار ما يحصل، أيها المسؤولون، ما تنالوه من بلل ليس فقط لأن «الدني عم بتشتي»... والخطاب للبيب...