تمهيد

يعدّ موضوع عمل المرأة من القضايا المعاصرة المهمّة اليوم في فقه المرأة، إنّه موضوع يحاول الإجابة عن أسئلة رئيسة: هل تملك المرأة الحقّ في العمل أم لا؟ وهل أنّ عمل المرأة مقيّد بقيود أو شروط خاصّة لا نجد نظيرها عند الرجل؟ وهل تحبّذ الشريعة الإسلامية أو تشجّع على عمل المرأة؟ وهل هناك تفصيل في نظر الشريعة بين حالات عمل المرأة المسلمة وغيرها؟ ولو سمحت الشريعة بعمل المرأة فهل لديها توجيهات إلزامية خاصّة بها وبغيرها تحكم عملها المذكور؟ وما هي هذه الإلزامات القانونية والأخلاقيّة؟ إلى غير ذلك من الموضوعات التي لابدّ من رصدها للخروج بموقف شرعي من عمل المرأة، إن شاء الله تعالى.

ومن الواضح في بداية الطريق أنّ عمل المرأة بما هو عملٌ ليس فيه محذور شرعي خاصّ، فلو عملت المرأة في منزلها في الخياطة مثلاً، ولم يصاحب عملها هذا أيّ محذور شرعي فلا مشكلة في هذا العمل؛ لأصل البراءة، حيث لم نجد في نصوص الكتاب والسنّة منعاً عن حقّ التكسّب لها أو العمل من حيث هو تكسّبٌ أو عمل، وذلك من ناحية المبدأ.

وهذا يعني أنّ حقّ العمل الذي هو أحد الحقوق العامّة للإنسان في المجالين: الاجتماعي والاقتصادي، لا يميّز فيه ـ من حيث ذاته ـ بين الرجل والمرأة في شريعة الإسلام، وإنما تنشأ مواقف التحفّظ العامّة أو الخاصّة في موضوع عمل المرأة من اللوازم والآثار أو المقارنات التي تصاحب عملها، حيث قد تسجّل بعض المحاذير الشرعية التي تصاحب عمل المرأة، ومن ثم تترك أثرها في المنع عن هذا العمل نفسه.

وقد تحدّث القرآن الكريم عن استئجار المرأة للإرضاع، فقال تعالى: ﴿وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى﴾ (الطلاق: 6)، بناءً على فهم الاستئجار من ذلك، بل قد قامت سيرة المسلمين ـ كما يذكر بعضهم([2])ـ على استئجار المرضعات، والفقه الإسلامي تحدّث عن ميزات المرضعة وأحكام استئجارها.

كما أنّ عمومات ومطلقات الحثّ على التجارة والتكسّب لا تفرّق في غالبها بين الرجل والمرأة([3]). يضاف إلى ذلك بعض الروايات الخاصّة هنا وهناك والتي تشير إلى عمل المرأة بوصفه ظاهرةً مفروغاً عن حلّيتها، مثل ما جاء في خبر السكوني: mنهى رسول الله| عن كسب الإماء، فإنّها إن لم تجد زنت، إلا أمةً عرفت بصنعة يد..n([4])، وكذا النصوص الواردة في كسب الماشطة وعملها، وما ورد من اكتساب المرأة بالنوح على الميت وغير ذلك من الأحاديث التي استند إليها بعض الفقهاء لإثبات المبدأ هنا([5]).

ولو تأمّلنا في المحاذير التي تشكّل مبرّرات الفريق المتحفّظ من عمل المرأة سنجدها محاذير ملازمة أحياناً أو عادةً لعمل المرأة، لو سلّمت بكونها محذوراً، وهذا يعني أنها ليست محاذير دائمية، مما يفرض إمكانية توفّر المرأة على عمل خالٍ من جميع المحاذير المفترضة، الأمر الذي يجعله جائزاً لا مشكلة فيه، ومن ثم لا يستطيع الفقيه أن يفتي بقولٍ مطلق بحرمة عمل المرأة في الإسلام؛ لعدم وجود حظر ذاتي متعلّق بذات العمل، ولا كون المحاذير المصاحبة للعمل ملازمةً له دائماً.

فلو أخذنا مثال توافق العمل والطبيعة الأنثوية، بوصف عدم التوافق محذوراً شرعياً، فإنّنا نجد أنّ هذا المحذور ليس دائمياً، بل يمكن أن تتوفّر المرأة على عمل يتوافق وطبيعتها الأنثوية، فبدل أن تعمل في الجيش أو قوات الشرطة بإمكانها العمل في الخياطة أو الإدارة أو الطبابة أو التعليم.

وهكذا لو أخذنا محذور خروجها من منزلها بغير إذن زوجها، فإنّه يمكن فرض تحصيلها الإذن من زوجها أو فرض عدم كونها متزوّجةً أساساً..

وعليه، فالبحث يدور حول هذه المحاذير المصاحبة، للنظر تارةً في أصل الحظر الشرعي في موردها، وأخرى في مديات تأثيرها على الموقف الشرعي من عمل المرأة.

 

الإشكاليات الشرعية المفترضة في عمل المرأة

ويمكن رصد هذه التحفظات الشرعية التي يمكن تصوّرها في عمل المرأة على الشكل التالي:

1 ـ إشكالية توافق العمل مع الطبيعة الأنثوية.

2 ـ إشكالية التأثير السلبي على الحياة العائلية.

3 ـ إشكالية الاختلاط بالأجانب وتحقّق الخلوة.

4 ـ إشكالية التأثير السلبي لعمل المرأة على فرص عمل الرجل خاصّة أو على التنمية عامّةً.

5 ـ إشكالية الخروج من المنزل بغير إذن الزوج أو الولي.

6 ـ إشكالية سفر المرأة بدون محرم.

من هنا، لابد لنا من بحث هذه الإشكاليات التي يمكن العثور عليها في ثنايا كلمات بعض التيارات الإسلاميّة التي تتحفّظ على عمل المرأة، والتي سعت خلال العقود الأخيرة لمواجهة هذه الظاهرة بطرق مختلفة، وسوف نقوم بتحليل هذه الإشكاليّات الواحدة تلو الأخرى؛ للنظر فيها ـ كلاً على حدة ـ على المستوى الفقهي والقيمي، ثم لقراءتها مجتمعةً مرّة أخرى، إن شاء الله سبحانه.

 

1 ـ إشكالية توافق العمل مع الطبيعة الأنثوية

قد يطرح المعارضون لعمل المرأة إشكاليةً تفيد أنّ الأعمال المتداولة اليوم لا تتفق جميعها مع الطبيعة الأنثوية للمرأة، ومن ثمّ فالسماح للنساء أو تشجيعهنّ على العمل بقولٍ مطلق يعني نقضاً للاستدعاءات الفطرية والتكوينية الموجودة عندهنّ، بل قد يترقّى هذا الفريق ليرى أنّ تكوين جسد المرأة وحالتها النفسية مجهّزان بوظيفة الأمومة والرعاية، ومن هنا يرى هؤلاء أنّ الأصل في مكان عمل المرأة ونوعه أن يكون في البيت فيما يكون عمل الرجل ونوعه خارج البيت؛ لأنّ المنزل هو المكان الذي تتوافر فيه تمام مقوّمات الأنوثة عند المرأة، كما أنّ المنزل يوفّر انعدام الاختلاط المتزايد بالرجال، الأمر الذي يعمّق من أنوثتها القائمة على الخصوصية والسرّية.

وربما يُستند لتأكيد الموقف الشرعي هنا إلى أمور:

الأول:قوله تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ (الأحزاب: 33)؛ فإنّ هذه الآية الكريمة تجعل الأصل في المرأة ومكانها أن يكون هو المنزل حيث الأسرة والأولاد وحماية أنوثتها الطبيعية، ومعنى ذلك حرمة خروجها من البيت إلا لحاجة، وإذا لم نفهم من الآية التحريمَ بهذا المعنى الذي يفرض إقامةً جبرية على المرأة، فلا شك في دلالة الآية على تأسيس الأصل في حياة المرأة، وهو أن تكون في البيت.

وقد يتعزّز هذا الأمر من خلال ملاحظة استخدام القرآن الكريم ضمير النسوة وأمثاله مضافاً إلى البيوت، وذلك في أربع آيات قرآنية، مع أنّ البيوت في الغالب تكون ملك الأزواج أو الآباء لا ملك النساء أو البنات؛ فقد قال تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ (الأحزاب: 33)، و﴿لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ﴾ (الطلاق: 1)، و﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالحِكْمَةِ﴾ (الأحزاب: 34)، و﴿رَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ﴾ (يوسف: 23).

الثاني:جعل الشريعة النفقةَ على الزوج والأب، مما يقدّم إيحاءً بأنّ الجانب المالي في الأسرة هو وظيفة الرجل الذي يتناسب معه الخروج وتحمّل مشاقّ العمل، فيما يكون البيت هو المكان الطبيعي الدافئ لأنوثة المرأة. ولعلّ ما يعزّز هذا المفهوم أيضاً ما جاء في قصّة موسى× مع بنات شعيب، حيث قال تعالى: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ﴾ (القصص: 23)، فإنّ الإشارة الأخيرة في الآية تعطي دلالةً واضحة على إرادة النصّ القرآني بيان أنّ هذا العمل ليس من شأننا كنساء، بل هو شأن الرجال، ولهذا علّلتا عملهما الذكوريّ هذا بكبر سنّ والدهما، وإلا فلا معنى لهذا الذيل في الآية الكريمة.

الثالث:إسقاط الشريعة بعض عيّنات الوظائف الذكوريّة عن المرأة كالجهاد وتولّي المناصب العامة وغير ذلك، مما يعطي إشارةً إضافية أنّ الشرع يرى ذلك تكليفاً لها بما لا يتناسب مع طاقتها الجسدية والنفسية.

ومن خلال ما تقدّم، نتوصّل إلى أنّ الأصل في عمل المرأة هو العمل الأنثوي، وأنّ الأصل في العمل الأنثوي هو الأعمال المنزلية المتعارفة، وهذا لا يضرّ بقيمة المرأة، فإنّ المشكلة هنا تكمن في تعريف العمل، حيث فسّر بما يكون مقابل أجرٍ مدفوع بحيث تكون العلاقة علاقة مادية بين العامل والمالك، في حين يمكننا فهم العمل بطريقةٍ أوسع بحيث تكون أعمال المرأة في بيتها جزءاً من مفهوم العمل في المجتمع، وسوف يتبيّن أنّ المرأة من أهمّ العاملات في المجتمع، فلا يصحّ وصف المرأة المربّية في بيتها بالعاطلة عن العمل، بل هي عاملة بعمل متناسب مع طبيعتها في مقابل الأعمال التي تشكّل ظلماً على طبيعتها كالعمل في استخراج النفط والمناجم وأعمال البناء وشقّ الطرقات والحمل والنقل وغير ذلك.

 

مطالعات نقديّة في إشكاليّة التوافق

وأمام هذه الصورة التي قد يطرحها المعارضون لمسألة عمل المرأة، يمكن التعليق ببعض الكلمات:

أوّلاً:يمكن أن نوافق ـ من حيث المبدأ ـ على ترجيح نوعٍ معيّن أو أنواع معينة من الأعمال للمرأة لا تضرّ بها وبأخلاقها وإمكاناتها الأنثوية، فإنّ القول بعمل المرأة لا يعني حصر النشاط النسوي بذلك النوع من الأعمال المضرّة بها جسدياً أو نفسياً، لكنّ الكلام في جعل الأصل في عمل المرأة هو ما ينجسم مع طبيعتها الأنثوية، ثم محاولة فرض أنّ ذلك مختصّ بالأعمال المنزلية، دون أن يطبّق الأمر عينه على الرجل، فلو كانت بعض الأعمال تضرّ بأنوثة المرأة، فلماذا لا يجري الحديث عن بعض الأعمال التي قد تضرّ برجولة الرجل؟ وكيف لم يقدّم معارضو عمل المرأة صورةً واقعية عن المشهد ما دام المرجع هو الحفاظ على الجانب الطبيعي والفطري في خلقة المرأة؟! وإذا كانت كلّ الأعمال لا تضرّ برجولة الرجل ـ بما فيها التنظيف والطبخ والخياطة وتعليم الأطفال والتجميل وتزيين الشعر والجسم وغير ذلك ـ فكيف نشأ هذا الفرق؟! حيث لابد من تقديم تفسير عقلاني حينئذٍ للتمييز المذكور غير مجرّد العادة الجارية التي قد يكون سببها الاستئناس بالأمر الواقع؟!

إنّ الاستئناس بالأمر الواقع وبالتجربة التاريخية الموروثة اجتماعياً قد يكون سبباً وراء تصوّر عمل خاصّ للمرأة، لاسيّما مع ادّعاء أنّ الأصل فيه هو داخل المنزل. وإلا فهناك العشرات من الأعمال التي يمكن أن تقوم بها المرأة بما لا يضرّ بتكوينها كالطبابة والصيدلة والتربية والتعليم والأعمال الإدارية والفنّية والبحثيّة بأنواعها وغير ذلك مما يغطّي مساحات كبيرة من العمل والوظائف في عصرنا الحاضر.

ثانياً:إنّ الاستناد إلى الآية 33 من سورة الأحزاب، والآمرة بالبقاء في البيوت غير صحيح؛ فإنّ الخطاب في هذه الآية الكريمة هو لنساء النبي، تماماً كمجمل السياق المحيط بها أيضاً من آيات، والقول بعمومية الحكم الوارد في الآيات يحتاج إلى دليل، فلا يصحّ ما ذكره بعضهم([6])من الجزم بأنّ الحكم عام، وأنّ التركيز على نساء النبي كان من باب التأكيد الأشدّ، تماماً كما نقول لعالمٍ: أنت عالمٌ فلا تكذب، مما لا يعني جواز الكذب للآخرين وصيرورته مباحاً لهم.

والذي يؤكّد ما نقول أنّ مجمل سياق الآيات السابقة كلّها تقريباً يظهر فيه أنّ الخطاب لنساء النبي|، وأنهنّ يتميّزن عن غيرهنّ من النساء، وأنّ الله تعالى كان بصدد التركيز عليهنّ، وهذا معناه أنّ الآيات جاءت حديثاً معهنّ، فتسرية أحكامها إلى غيرهنّ يحتاج إما إلى دليل من الخارج يثبت أنّ حكماً ما ثبت مستقلاً لغيرهنّ أيضاً، كما في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، أو إلى شاهد تعليلي في داخل الآيات يفيد أنّ نكتة الحكم لا تختصّ بزوجات النبي|، وإلا فمن غير المعلوم أنّ هذه الآيات ـ لاسيّما بعد تصريحها بــ ﴿لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء..﴾ ـ تستوعب في حدّ ذاتها غير زوجات النبي إلا بشاهد وقرينة.

بل الشاهد على عكس ذلك في نقطة بحثنا؛ فإنّه إذا كان المراد من الآية هو مطلق الخروج إلا لحاجة وضرورة أو لقضاء واجبٍ شرعي كالحج، وكانت الآية عامّةً شاملة، لكان معنى ذلك أنّ سيرة المسلمين في العصر النبوي ومن بعده لابد أن تكون قائمةً على ذلك، وإلا لصدر النهي من النبي أو الصحابة أو أهل البيت، ولمّا كانت هذه ظاهرةً عامة فلابد أن يكون التركيز عليها كبيراً بحيث يصلنا اعتراض عام حول ظاهرة خروج النساء من البيوت، كيف وقد كانت النسوة تخرجن للتسوّق وغيره دون اعتراض، ولم نسمع يوماً أنّ النبيّ وأهل البيت والصحابة قد استندوا إلى هذه الآية لمواجهة ظاهرة خروج النساء من بيوتهنّ، على خلاف الاستناد إلى هذه الآية نفسها في قضية خروج السيدة عائشة على الإمام علي× في حرب الجمل، فهذا الشاهد يعزّز الاختصاص دون وجود شاهد عكسي لصالح التعميم.

هذا كلّه، إذا لم نذهب إلى أنّ القرار في البيوت هنا بمعنى الوقار والسكينة لا بمعنى الاستقرار كما طرحه بعض([7])؛ إذ يصبح معنى الآية الكريمة بأنّ عليكنّ أن تكنّ على سكينة ووقار في بيوتكنّ، فتغدو أجنبيّةً عن محل البحث، وإن كان هذا الاحتمال التفسيري ـ فيما يبدو لي ـ بعيداً.

كما ينبغي أيضاً ـ لكي يصّح استدلال معارضي عمل المرأة هنا ـ أن يكون المراد من القرار في البيوت هو البقاء فيها مقابل الخروج، وإلا فلو فُهم من القرار في البيوت الاحتشام والعفّة في مقابل تبرّج الجاهلية الأولى، فيكون المعنى حينئذٍ: والتزمن العفّة والحشمة والستر والحجاب ولا تكنّ متبرّجات كحال الجاهلية الأولى، حيث كانت المرأة تخرج بين الرجال سافرةً وتختلط بهم بلا إطار شرعي.

ثالثاً:إنّ استخدام القرآن الكريم إضافة البيوت إلى النساء مع عدم ملكيتهنّ في العادة للبيوت، لا يعني بالضرورة إيجاد ربط بين المرأة والقرار في البيت مطلقاً، بل على العكس من ذلك، قد تفهم الإضافة في سياق تكريم الزوجة، بمعنى جعل هذه البيوت منسوبةً إليهنّ ـ مع عدم ملكيتهنّ لها ـ نتيجة ما لهنّ فيها من حقّ السكنى والاستفادة والاختصاص بالمعنى العام للكلمة، ومن هنا نقول بأنّ هذا البيت هو بيت فلانة؛ لأنه ملك زوجها وهي تعيش معه فيه، لا لأنه لا يحقّ لها الخروج أو لا يرجح لها ذلك، بل لأنّ صيرورته سكناً لها وحقاً في السكن يجعل لها نحو علاقة به تبرّر إضافة البيوت إليها.

رابعاً:إنّ إسقاط الشرع النفقةَ على الزوجة وجعلها على الزوج وإن دلّ على تحميل الزوج المسؤولية المالية للمنزل، لكنّه لا يدلّ على مرجوحية عمل المرأة فضلاً عن التحريم؛ لأنّ النفقة على الزوجة حقّ لها لا واجب عليها من ناحية الأخذ، وهذا معناه أنّ الشريعة عندما جعلت للمرأة على الرجل حقّ النفقة حتى لو كانت ذات يسار قد ألزمت الرجل بأداء الحقّ إليها، لكنها لا تُلزم المرأة بأخذ هذا الحقّ، فبإمكانها إسقاطه إما مطلقاً وإلى الأبد كما هو أحد الأقوال في المسألة أو كلّ يوم بيوم أو كلّ مدة بمدّة، وهذا كلّه يعني أنّ الإسلام بإلزامه الزوج بالنفقة لا يلزم المرأة بالبقاء أو عدم العمل، بل ولا يرجّح ذلك، وإنّما يعطيها الحقّ في ذلك، وإعطاؤها هذا الحقّ لا يعني سلبها حقّ الملكية أو التكسّب. ويشهد لذلك أنّ النفقة واجبة على الزوج على المعروف حتى لو كانت المرأة ذات يسار، فبإمكانها التكسّب وتحصيل المال ومع ذلك يجب على الزوج النفقة، وهذا غاية ما يدلّ عليه أنّ الإسلام لم يلزم المرأة بالعمل والتكسّب لإعالة المنزل، وقد يكون ذلك إفساحاً في المجال للجانب التربوي والأسري الموكول إليها، لا أنه ألزمها بعدم العمل أو جعله مرجوحاً بالنسبة إليها، فلاحظ جيّداً.

خامساً:إنّ آية سورة القصص في حديثها عن المرأتين مع موسى×، لا ترتبط ـ بالضرورة ـ بمسألة عدم شأنية المرأة أن تعمل مثل هذا العمل، بل الأرجح أن يكون ذلك مرتبطاً بمسألة تصدّيهنّ لعملٍ فيه هذا الاختلاط، فإنّهما لما سألهما موسى عن حالهما لم تجيبا بأنّنا نسقي، والسبب هو أنّ أبانا شيخ كبير، بل أجابتا بما يتصل بالاختلاط الذي فرض عليهنّ حالة ﴿مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ﴾، فقد كانتا تمنعان مواشيهما عن التقدّم إلى مكان الماء للشرب قبل أن ينصرف الناس كي لا يختلط الأمر وتضطرّان للاختلاط بالرجال، فالمشكلة كانت مشكلة الاختلاط في هذا الوضع، ولهذا سقى لهما موسى× لما رأى من حالهما، ولم تكن المشكلة أننا نسقي ـ بصرف النظر عن الاختلاط ـ مقابل عدم السقي، لتكون الآية على صلة بالعمل بوصفه فعلاً مقبولاً وأنثوياً أو لا، فلابدّ من إدراج هذه الآية الكريمة في موضوع الاختلاط، لا في موضوع أصل العمل الأنثوي.

يُشار إلى أنه ليس في الآية جهة إلزام شرعي حتى لو تمّت الاستفادة منها، بل فيها ترجيح على أبعد تقدير.

سادساً:إنّ الحديث عن إعفاء المرأة من بعض الأعمال ذات الطابع الذكوري كالجهاد والمناصب العامّة، بل منعها ـ وضعاً ـ من بعضها، هو دعوى مشهورة، لكنّ تحقيقها مشكل؛ فقد حقّقنا في محلّه أنّ المرأة يمكنها أن تكون مرجع تقليد([8])، كما أننا نشكّك في منعها من حقّ القضاء والولاية على تفصيل نوكله إلى محلّه، فلم يبق سوى بعض أنواع الشهادات وكذلك إمامتها لصلاة الجمعة والجماعة. ومسألة الشهادة لا علاقة لها بالعمل؛ لأنها ليست عملاً بالمفهوم الاقتصادي والتنموي، فضلاً عن أنّ القرآن الكريم قد كشف عن الوجه في بعض قضايا الشهادة بقوله تعالى: ﴿أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى﴾ (البقرة: 282)، فلعلّ الوجه في دقّة الشهادات، لا في مسألة العمل والخروج أو منافاة ذلك لأنثوية المرأة.

يضاف إلى ذلك كلّه، أنه حتى لو سلّمنا أنّ الشريعة لم تحبّذ تصدّي المرأة للقضايا العامّة السياسية وغيرها، فهذا لا يكشف بالضرورة عن علاقة هذا الموضوع بمسألة العمل الذكوري والأنثوي بقدر ما يتصل بموضوع إمكانات المرأة من جهة (وهو موضوع أخصّ من موضوع الذكورية والأنوثية في العمل) والاختلاط من جهة ثانية.

فلا يبقى هنا إلا ما نراه على صلة واضحة بقضيّة البُعد الذكوري والأنثوي، وهو موضوع الجهاد؛ فإنّ الفهم العقلائي يستقرب أنّ إسقاط الجهاد عن المرأة كان لما في الجهاد من طابع الخشونة وما يحتاجه من قوّةٍ وشدّة لا تتناسبان مع نعومة المرأة ورقّتها وأنثويّتها، وهذا ما يفتح على قضيّة عامة في عمل المرأة، وهو أنّ الشريعة لم تكن متحمّسة لهذا النوع من الأعمال المشابهة أو القريبة من الجهاد، مثل انتساب المرأة إلى عمل الشرطة بأنواعها أو القوات الأمنية، ممّا بتنا نشهد ظواهره في بعض البلدان الإسلامية.

والمسألة الفقهية التي تقع على صلة بهذا الموضوع هي مسألة الجهاد التي يفترض فيها أن تكشف عن رغبة الإسلام وعدم رغبته في تصدّي المرأة لهذا النوع من الأعمال القاسية، وتطلّ بنا بحقّ على قضية العمل الأنثوي من حيث المبدأ؛ من هنا لا بأس بمعالجة مسألة سقوط الجهاد عن المرأة لنطلّ من خلالها على موضوع البحث هنا.

ونقول: من الشروط التي ذكرها الفقهاء في وجوب الجهاد الذكورة، حيث شرطوها في الجهاد الابتدائي سنّةً وشيعة، والظاهر أنّ الأدلّة العامّة في الجهاد من الآيات والروايات تشمل الرجال والنساء على السواء، وليست منصرفةً عنهنّ، إذ لا موجب لهذا الانصراف بعد أن كانت نصوص الجهاد كسائر النصوص الواردة في التشريعات المختلفة تطال بطبيعتها الرجل والمرأة. نعم، عدم مشاركة المرأة في تلك العصور في الحرب كان حقيقةً قائمة في الحالة الغالبة، ويبدو أنّ سببه كان قساوة الحرب من جهة وضعف إمكانات المرأة الجسدية من جهة ثانية، مع أنّه من غير المعلوم في بعض صور الجهاد الدفاعي ـ كحالة هجوم الأعداء على بلاد المسلمين ـ أنهنّ لم يكنّ يشاركن في القتال أو في الإعداد له، على أنّ خروجهنّ للحرب كان أمراً عسيراً مع وجود أطفال صغار يرتبك حالهم مع فقدان آبائهم وأمهاتهم ولو لمدّة، ولم تكن الحياة بالتي تسمح بتفادي مثل هذه النتائج الصعبة لخروج المرأة للجهاد.

وحيث إننا نذهب إلى عدم ثبوت الجهاد الابتدائي في التشريع الإسلامي([9])، فلا يبقى إلا الجهاد الدفاعي، ومعه بإمكاننا القول بأنّ الملاك الثابت في الجهاد الدفاعي ملاك هامّ وأساسي جداً تصلح قوّته لشمول الحكم، فلا ينبغي الشك في إطلاق أدلّة الجهاد وعمومها للرجل والمرأة، بل لو قلنا بالابتدائي لم يكن هناك مانع في النصوص؛ لأنّ الانصراف بعد هذا التوضيح الذي ذكرناه لن يكون قائماً سوى على قلّة الوجود لا على ما يوجب تقييداً في الأدلّة.

لكن في المقابل، ثمّة أدلّة طرحها مشهور فقهاء الإسلام لإسقاط وجوب الجهاد عن المرأة، لابد من التعرّض لها هنا.

 

أدلّة عدم وجوب الجهاد على المرأة، وقفات نقدية

أبرز ما قدّمه المشهور هنا لإسقاط وجوب الجهاد عن المرأة ما يلي:

أولاً:الإجماع على سقوط الجهاد عن المرأة([10]).

وهذا الإجماع لو سلّمنا به صغروياً وتاريخيّاً وقبلنا كاشفية الإجماع في علم أصول الفقه بالطريقة التي يطرحونها، نجده هنا واضح المدركيّة؛ للأدلّة القادمة، أو لا أقلّ من أنّ ضعف النساء عن هذا الأمر قد يكون أوحى لهم بانصراف الأدلّة، مضافاً إلى عدم المعهودية.

ثانياً:النصوص الخاصّة، فإنّنا بعد مراجعة المصادر الحديثية ـ حيث خلى القرآن الكريم من الإشارة إلى هذا الموضوع ـ لم نجد هذه النصوص المعتمدة هنا تمثل إلا عدداً محدوداً من الروايات القليلة جداً، وهي:

1 ـ الحديث المتعدّد السند عن النبي أو الإمام علي أو الإمام الباقر:mوجهاد المرأة حسن التبعّل..n([11]).

وقد ورد هذا الحديث في بعض المصادر ـ كنهج البلاغة وتحف العقول وخصائص الأئمة، وكذا ما في موضعٍ من الكافي وآخر من الفقيه ـ مرسلاً، فيما ورد مسنداً في سائر المصادر، وأسانيده هي:

أ ـ سنداه الواردان في كتاب الخصال للشيخ الصدوق، والأوّل ضعيف جداً بكلٍّ من: أحمد بن الحسن القطّان؛ لأنه مهمل، والحسن بن علي العسكري (السكري)؛ لأنه مهمل أيضاً، ومحمد بن زكريا الجوهري البصري (298هـ)؛ لأنه مجهول، وجعفر بن محمد بن عمارة؛ لأنه مهمل، ومحمد بن عمارة أيضاً؛ لأنه مهمل كذلك. كما أنّ سنده الآخر في الخصال في حديث الأربعمائة ضعيفٌ بالحسن بن راشد، حيث لم تثبت وثاقته.

ب ـ سند الجعفريات، وقد حقّقنا في محلّه أنّ كتاب الجعفريات لم يثبت، وفاقاً لمثل السيد الخوئي.

ج ـ سند الكليني في الكافي، وهو ضعيفٌ بسهل بن زياد، وعلي بن حسان الذي ضعّفه علماء الرجال.

د ـ سند الصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه، وفي الطريق موسى بن بكر الذي لم يثبت توثيقه.

هـ ـ سندا ابن عبد البرّ في التمهيد، والأوّل فيه عثمان بن عثمان بن خالد بن الزبير، وهارون بن يحيى الحاطبي وهما مهملان مجهولان جداً، كما صرّح ابن حجر بمضمون ذلك([12])، وأما سنده الآخر، فهو ضعيف أيضاً بأحمد بن داوود الحراني المضعّف([13]).

و ـ سند الإصبهاني في دلائل النبوّة إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وهو ضعيفٌ بعبد الرحمن بن زيد بن أسلم المضعّف عند علماء الرجال المسلمين.

ز ـ سند الراوندي إلى أبي هريرة، وفي السند عبد الرحمن بن حرملة، وقد اختلفوا فيه بين مضعِّفٍ وموثق([14])، والحسين بن إسحاق الدقاق، وهو مهمل([15]).

وبهذا يظهر أنّ جميع أسانيد هذا الحديث ضعيفة، إما بأشخاص متّهمين بالكذب والوضع، أو بمهملين أو مجاهيل، على أنّ بعض الأسانيد مشتركة في بعض الرواة، مثل السند الثالث والرابع فليلاحظ ذلك.

وأمّا دلالة هذا الحديث فجيّدة؛ لأنّ الحديث كأنما يريد أن يجعل جهاد المرأة في التبعّل الحسن ويصرفه عن معناه العام.

2 ـ خبر الأصبغ بن نباتة، قال: قال أمير المؤمنين×: mكتب الله الجهاد على الرجال والنساء، فجهاد الرجل بذل ماله ونفسه حتى يقاتل في سبيل الله، وجهاد المرأة أن تصبر على ما ترى من أذى زوجها وغيرتهn([16]).

وتقريب الاستدلال به أنّه بتقسيمه صَرَفَ أدلّة الجهاد عن الشمول للمرأة، فلا يجب عليها، فهو قاطعٌ للاشتراك وشارح للجهاد الواجب على المرأة([17]).

وقد روي هذا الحديث أيضاً بعبارات قريبة عن شريس الوابشي عن جابر عن الباقر× في كتاب من لا يحضره الفقيه([18])، والسند ضعيفٌ بجهالة الوابشي، وأما سنده إلى الأصبغ فرغم تصحيح بعضهم له([19])، ألا أنّ الصحيح أنّه غير معتبر بالحسين بن علوان، فهو مجهول عندنا.

3 ـ خبر عائشة وغيرها،قالت: استأذنت النبيّ في الجهاد، فقال: mجهادكنّ الحجّn([20])، والرواية تفيد صرف مفهوم الجهاد عن النساء إلى شيء آخر.

والظاهر أنّ سند الحديث صحيح وفق قواعد النقد الحديثي السنّي.

4 ـ خبر أنس بن مالك،قال: قالت أم سليم: يا رسول الله، أخرج معك إلى الغزو؟ قال: mيا أمّ سليم، إنه لم يكتب على النساء الجهادn، قالت: أداوي الجرحى، وأعالج العين، وأسقي الماء، قال: mفنعم، إذاًn([21]). ودلالته صريحة على عدم وجوب الجهاد عليهنّ، لكنّ الخبر ضعيف السند بجعفر بن سليمان بن حاجب الأنطاكي، حيث لم يرد فيه ما يوثقه.

5 ـ ما روته عائشة زوج النبي، عنه|،أنه: سأله نساؤه عن الجهاد، فقال: mنِعْمَ الجهاد الحجّn([22]).

وهذا الخبر يمكن تصحيح سنده وفق أصول علم الرجال السنّي، ولعلّه عين الخبر الثالث المتقدّم، لكنّه لا يفيد سقوط وجوب الجهاد عن المرأة؛ لأنّ السؤال ـ كما الجواب ـ لا يحتويان إشارةً إلى أنّ الموضوع هو جهاد المرأة، وإن كانت المناسبات السياقية وأنّ السائلين هم نساء النبي| تعزّز جداً هذا الافتراض.

6 ـ خبر عائشة، أنها قالت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: mلا، لكنّ أفضل الجهاد حجّ مبرورn([23]).

والظاهر أنّ الحديث صحيح الإسناد عند أهل السنّة([24])، كما أنّ دلالته واضحة، وإن كان في إطلاقه أفضليّة الحجّ من القتال في سبيل الله في صدق عنوان الجهاد تأمّلٌ؛ إذ الحديث يثبّط عن الجهاد ويرغّب في الحج، وهو محلّ استفهام، اللهم إلا إذا أريد من ذلك أنّ الحجّ هو أفضل الجهاد للنساء خاصّة، مع افتراض سقوط كلمة (لَكُنَّ) من الرواية أو تقديرها.

7 ـ خبر أم كبشة، قالت: يا رسول الله، أتأذن أن أخرج في جيش كذا وكذا؟ قال: mلاn، قالت: يا رسول الله، إنه ليس أريد أن أقاتل، إني أريد أن أداوي الجرحى والمرضى أو أسقي المرضى. قال: mلولا أن تكون سنّة، ويقال: فلانة خرجت، لأذنت لك، ولكن اجلسيn([25]).

ولكنّ هذا الحديث يعارض ما ثبت صحيحاً وتاريخياً من أنّ بعض النساء كنّ يخرجن إلى الجهاد لمثل المداواة، كما في الخبر الصحيح عن أمّ سليم قالت: كان النبي| يغزو معه نسوةٌ من الأنصار فتسقي الماء وتداوي الجرحى([26]). من هنا يترجّح أن يكون في الأمر خصوصية دفعت النبي للتحفّظ، ولعلّ الخصوصية في نفس تلك المرأة ـ أم كبشة ـ إذ ربما يكون خروجها له وضعه الخاصّ.

هذا، وأم كبشة لا موجب لتوثيقها، سوى أنها من الصحابيات، ويبدو أنه ليس لها إلا هذا الحديث، ولا معلومات إضافية حولها سوى أنها من قضاعة([27])، ولا نقول بنظرية عدالة الصحابة بعرضها العريض، فالخبر ضعيف السند.

8 ـ خبر عائشة،قالت: قلت: يا رسول الله، هل على النساء جهاد؟ قال: mنعم، عليهنّ جهاد لا قتال فيه، الحجّ والعمرةn([28]).

والظاهر تصحيح السند وفق أصول أهل السنّة([29])، والدلالة ظاهرة، وهناك نصوص أخَر ضعيفة السند جداً([30]).

وبهذا نستنتج أنه لم يصحّ أيّ خبر عند الإمامية في إسقاط وجوب الجهاد على المرأة، أما عند أهل السنّة فالظاهر وجود ثلاثة أخبار صحيحة على الأقلّ، ومجموع النصوص يبلغ ثمانية، لكنّ جملة من روايات أهل السنة ترجع إلى سند واحد أو متقارب، ينتهي إلى عائشة بنت طلحة عن عائشة زوجة النبي، ممّا يقلّل من نسبة سرعة حصول اليقين بصدور الحديث، ومثل هذا العدد القليل من الأخبار ـ بعد حذف ما لا دلالة له ـ لا يورث اطمئناناً بالصدور، وقد بحثنا بالتفصيل في كتابنا mحجية الحديثnبأنّ حجية الخبر خاصّة بالخبر الاطمئناني. بل لو صحّت هذه الأخبار وأورثت العلم العادي بالصدور لما دلّ بعضها إلا على إسقاط الوجوب، لا على مرجوحيّة جهاد المرأة، بل لو دلّ على المرجوحيّة يصعب تعميمه لكلّ عملٍ شاق، حيث يختصّ بما كان فيه مظنّة بذل المهج.

ثالثاً:ما ذكره السيد الخوئي من سيرة النبي|، حيث لم يكن يعهد أنه يخرج النساء أو يطالبهنّ، ولو كان الجهاد واجباً عليهنّ لكان من الطبيعي أن يتعامل معهنّ تعامله مع الرجال([31]).

وهذا الوجه جيّد لولا محذور أنّ طبيعة الحرب في تلك الأيام وطبيعة الحياة عموماً لم تكن تجد عظيم فائدة في مشاركة النساء في القتال؛ لصعوبة الحرب وضعف النسوة جسدياً عادةً عن مثلها، ولهذا وجدنا أنّ خروج النساء مع النبي| إلى الغزوات كان لمثل مداواة الجرحى وصنع الطعام، وأنهنّ لم يشاركن في القتال، إلا ما روي في بعض المصادر السنّية عن أمّ عمارة الأنصارية، وأنها كانت تقاتل يوم أحُد ذبّاً عن النبي|([32])، فلعلّ الجهاد كان واجباً عليهنّ لكنّ النبي| لم ير فيه مصلحةً آنذاك في غير دائرة المساعدة دون القتال، والسيرة والفعل دليلان لبيّان يقتصر فيهما على القدر المتيقن، كما لا ينبغي الغفلة عن أنّ الجهاد لا يختصّ بالقتال الفعلي المباشر، فمن يداوي الجرحى في ساحة المعركة أو يقوم بالدعم اللوجستي فهو يجاهد، ولعلّ هذا المقدار هو ما كان يطلبه النبي| منهنّ لإمكانه لهنّ، ولم يكن الجيش بحاجة إلى أكثر من ذلك، بل ربما كان في الأمر مضرّة.

وعليه، يلاحظ على الفقهاء أنهم فصّلوا في شرط الذكورة بين الجهاد الابتدائي والدفاعي، ولم نفهم هذا التفصيل أيضاً، فإذا كان مدرك سقوط الجهاد عن المرأة في الابتدائي انصراف أدلّة الجهاد، فهذا متساوي النسبة إليهما، وإذا كان هو الروايات فكذلك، وإذا كانت سيرة الرسول| فجهاد الرسول في أغلبه دفاعي بالمعنى العام؛ لأنّ النبي كان يقاتل من يكيدون بالإسلام ويخطّطون لإسقاطه، وقد أخرجوه من دياره، فأراد العودة إليها وهكذا، فسيرته دالّة على سقوط الوجوب في الدفاعي أكثر من الابتدائي، ولم نعثر على أيّ دليل يصحّح هذا التمييز، إلا العنوان الثانوي القائل بأنّ الدفاع دفاعٌ عن بلاد المسلمين، والمصلحة العليا تقتضي مشاركة الجميع، لكنّ هذا ليس كلاماً في العنوان الأولي، وإطلاق وجوب الدفع على القادر لم نجد له دليلاً، أفهل يشمل غير البالغ مع سقوط التكاليف عنه؟! اللهم إلا بالعنوان الثانوي.

والنتيجةهي القول باشتراط الذكورة في الجهاد مطلقاً ـ عدا الدفاع الشخصي أو العنوان الثانوي ـ إذ قبلنا تخصيص الكتاب بالآحاد، وقلنا بحجيّة الآحاد، أو اعتبرنا أنّ مجموع هذه النصوص المتقدّمة يفيد الاطمئنان بالصدور، أو قلنا بأنّ آيات الجهاد فهمها المسلمون الأوائل خاصّةً بالرجال؛ لذا لم يكن هناك سؤال هام عن الموضوع، بلا فرق في ذلك بين الدفاعي والابتدائي. وكلا الأساسين باطل؛ لعدم التخصيص من جهة، وعدم السؤال كان لضعف النساء فيكنّ مشمولات لملاك الضعف العام الحاكم في كتاب الجهاد عامّة.

فالظاهر شمول حكم الجهاد مطلقاً للرجال والنساء في الابتدائي والدفاعي، نعم، ضمن ملاك ما تتحقّق به الكفاية، وما يراه حاكم المسلمين، وما لا يكون فيه حال المرأة حال الضعف عن المشاركة، كما في أغلب الحالات في الأزمنة الماضية، ولم تخلّ مشاركتها بأيّ عنوان آخر، اللهم إلا إذا قيل بأنّ الضعف النوعي فيهنّ أسقط التكليف نوعاً حتى في حال القدرة.

وبناءً على ذلك كلّه، يتبيّن أنّ الإسلام وإن أوجبت إطلاقات الكتاب الكريم فيه شمول الحكم في الجهاد للرجل والمرأة، إلا أنه حيث كان الجهاد عندنا دفاعياً فقط أمكن فهم هذه المشروعية في سياق حاجة المجتمع الإسلامي إلى مشاركة المرأة في هذا الموضوع، ومعه فلا نفهم وجود رغبة أو توجّه عام لمشاركة المرأة في مثل هذا النوع من الأعمال إلا حيث تستدعي الضرورة وإن لم يكن هناك منع بملاحظة العناوين الأولية، بل إنّ إخراج الرسول| للنساء إلى الحرب لأعمال دعم وإسعاف رغم إمكانية اعتماد الرجال لهذا العمل لا أقلّ في بعض الحروب، شاهدٌ على أنّ الطبيعة الأنثوية لا تتنافى مع هذا النوع من الأعمال، ممّا ينتج أنّ قضية التنافي مع الطبيعة الأنثوية ليست أمراً دينياً بقدر ما هي عنوان واقعي، فلو ثبت أنّ عملاً ما ينتج آثاراً سلبية على شخصية المرأة ـ فرداً أو نوعاً ـ فإنه يمكن المسير إلى مرجوحيته نظراً لما يُنتجه، لكنّ ذلك يكون بالعنوان الثانوي لا الأوّلي.

أما موضوع الخروج من المنزل والاختلاط فسيأتي الحديث عنه كما قلنا، وهو بحثٌ آخر لا يرتبط بجهة البحث في الإشكالية الأولى والتي تمركزت حول الطبيعة الأنثوية للعمل الذي تمارسه المرأة.

وبهذا يظهر أنّ الإشكالية الأولى لا دليل عليها إلا بالمقدار الذي تفرضه العناوين الثانوية الحافّة أو القواعد المساعدة في الفقه الإسلامي عموماً كتقديم الأهمّ على المهم أو سدّ الذرائع أو غير ذلك.

ومن ذلك نعلم أنّ الطبيعة الذكورية لعمل الرجل تخضع للاعتبار نفسه، فلو مارس أعمالاً ينجم عنها تأثيرات سلبية من زاوية نوعها أمكن الحديث عن مبدأ المرجوحيّة بالطريقة التي بيّناها.

 

2 ـ إشكالية التأثير السلبي على الحياة العائلية

ينطلق الرافضون لعمل المرأة من أنّ عملها يؤدّي إلى تقصيرها القهري في حقّ أولادها وزوجها، ومن ثمّ فهو يفضي إلى تفكّك الأسرة من خلال استبدال الأمومة بالحاضنات أو مراكز الحضانة. إنّ التجربة التي وقعت حتى الآن تؤكّد هذا الأمر وتثبت أن توجّه المرأة إلى العمل خارج منزلها كانت له آثار وخيمة على الوضع الأسري وعلى التربية وحسّ الأمومة والرعاية والحضانة.

ولكي ندرس هذه الإشكالية لابد أن ننظر إليها تارةً بمنظار شرعي وفقاً للأحكام الفقهية والشرعية، وأخرى من ناحية عقلانية تفضي إلى تطبيق القواعد الشرعية العامّة.

أ ـفلو رجعنا إلى المجال التشريعي المنطلق من النصوص، فسوف نلاحظ أنّ هذا الكلام غير واضح من زاوية ادّعائه أنّ المرأة مطالبة بالجانب الداخلي من الأسرة، فالفقهاء المسلمون لم يوجبوا على المرأة تربية الأطفال ولا حضانتهم ولا حتى إرضاعهم ما لم تتوقف حياتهم عليه، وأجازوا لها أن تأخذ الأجرة لو فعلت ذلك ولو كان واجباً عليها، تماماً ككافة ما يرتبط بقضايا العمل المنزلي، ولم تدرج الكتب الفقهية ضمن واجبات الزوجة أو الأمّ الأعمال المنزلية بقدر ما ركّزت على وجوب أن تمكّن زوجها من نفسها أو أن لا تخرج من منزله إلا بإذنه وما شابه ذلك، ومع مثل هذه المجموعة من المواقف الفقهية.. كيف نستطيع الحديث عن مفهوم إسلامي إلزامي يتعلّق بالملفّ العائلي؟

ولو كانت الشريعة ترى وظائف التربية والعمل المنزلي و.. قائمةً على المرأة، فكيف لم نجد دليلاً مقنعاً على ذلك بنحو إلزامي لدى مشهور الفقهاء؟! فلم يتحدّث القرآن الكريم بصورة وظيفية خاصّة بالمرأة عن موضوع التربية والحضانة والتعليم والعمل المنزلي، كما لا يوجد في النصوص الصحيحة ما يساعد على فرض من هذا النوع، ولعلّ الشريعة اعتمدت على المعهودية في ذلك الزمان، لكن لعلّها أيضاً اعتمدت على عنصر المواضعة التي تقع على المستوى الاجتماعي أو الفردي في وظيفة الزوج أو الزوجة في غير ما نصّت هي على إلزاميّته، فبدل الخروج باستحسانات واستنسابات وبناء الذهن الشرعي عليها يفترض بنا الرجوع إلى النصوص وإلى مكوّنات المنظومة الفقهية المرتبطة بعمل المرأة ومسؤوليّاتها داخل المنزل.

ب ـأما لو عدنا إلى المعطيات العقلانية البشرية في هذا المضمار، فهنا لابدّ من رصد التأثيرات السلبية والإيجابية في كلّ عصر على حدة، لنرى هل التأثيرات السلبية على الأسرة أمرٌ واقع أم لا؟ ومن ثم تحديد درجة هذه التأثيرات السلبية بالدقّة، لننتقل بعد ذلك إلى دراسة البدائل المتوفّرة التي يمكنها أو لا يمكنها أن تسدّ الفجوات الناجمة عن فقدان الأسرة لحضور المرأة في البيت بشكل كبير.

إنّ هذا النوع من الدراسات غير المنحازة مسبقاً يمكنه أن يسمح باستخدام القواعد العامة في الفقه الإسلامي لإثبات مرجوحية خروج المرأة أو رجحانه أو حتى حرمته الشرعية بنحو إلزامي، إما بنحو القانون العام الشامل لأفراد النساء في المجتمع تحفّظاً على ما هو الأهم أو بنحو فردي ومتفرّق في خصوص هذه الأسرة أو تلك.

وعندما نجعل المرجعية هنا بشريةً بهذا المعنى، فلن يقف الكلام عند حدود المرأة، بل سيطال الرجل أيضاً، فكثرة غياب الرجل عن المنزل ـ حيث لا ضرورة ـ لها آثارها السلبية من وجهة نظر هؤلاء الخبراء، ومن ثم فهذا المنطق سيخاطب الرجل تماماً كما يخاطب المرأة؛ إذ كما يكون عملها خارج المنزل مضرّاً في بعض الأحيان، كذا يمكن أن يكون عمله كذلك ولو على مستوى بعض الامتدادات للعمل.

وإذا أردنا أن نحدّد وجهة نظرنا من خلا